تمرّ العلاقات بين المغرب وإسبانيا بمرحلة من التوتر الحقيقي، وهي الآن في مرحلة القطيعة التقنية، وقد تنتقل إلى القطيعة السياسية التي قد تدوم شهورا، وذلك على خلفية نزاع الصحراء. وهذا يجر إلى التساؤل عن المواقف السياسية السائدة وسط الطبقة السياسية والمثقفة، والدولة العميقة في إسبانيا، تجاه هذا الملف الذي عاد ليصبح محددا للعلاقات بين الرباط ومدريد، بل حتى في علاقة المغرب بالاتحاد الأوروبي.
ومع انفجار هذه الأزمة، لم تنفع اتفاقية الصداقة وحسن الجوار، الموقع عليها سنة 1992 بين البلدين كإطار لعلاج المشاكل، وكذلك لإرساء آليات التقدم في هذه العلاقات، وتبقى تصريحات الثناء التي تصدر عن مدريد أو الرباط، بدون محل من الأعراب، بل فلكلورية وتثير السخرية السياسية أمام أول اصطدام حقيقي، كما يحدث الآن.
عاد ملف الصحراء ومنذ ديسمبر/كانون الأول الماضي ليفجر الأزمة بين البلدين، ويجر معه ملفات أخرى مثل، مكافحة الهجرة والإرهاب. ويتم التركيز على استقبال إسبانيا لزعيم حركة البوليساريو إبراهيم غالي، التي تنازع المغرب السيادة على الصحراء كعامل رئيسي للأزمة. نعم، يعد عاملا من ضمن العوامل، بينما لدى الدولة العميقة في مدريد والرباط نظرة أعمق لهذا النزاع. وعلاقة بهذا، وعلى ضوء التصريحات والكتابات الصحافية في البلدين، خاصة تلك المقربة من نواة السلطة، طرح المغرب مشكل استقبال مدريد لغالي، ورزمة من المشاكل الأخرى مؤطرة بنظرة أعمق وهي «هل إسبانيا جار يستحق الثقة؟ هل إسبانيا دولة يهمها استقرار المغرب، وتساهم في هذا الاستقرار؟ أم تتعامل معه مجرد حارس أمن لحدودها ضد الإرهاب والهجرة؟ وتعد تصريحات وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إبان هذه الأزمة دالة في هذا الشأن. وفي أعقاب اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم 10 ديسمبر الماضي بسيادة المغرب على الصحراء، ساد استغراب كبير في الرباط، كيف سارعت مدريد إلى معارضة الاعتراف، بل نسّقت مع دول أوروبية منها المانيا للحيلولة دون انخراط الاتحاد الأوروبي في الاعتراف الأمريكي. وهذا ما جعل فرنسا تقف عاجزة عن اتخاذ أي مبادرة وهي التي عملت دائما على دعم مقترح الحكم الذاتي. ويرى المغرب أن نهاية نزاع الصحراء، من خلال الحكم الذاتي هو نهاية المشاكل في البلاد للتفرغ للتطور الاقتصادي، بل نهاية النزاع في منطقة شمال افريقيا. وتتجلى رؤية المغرب في اعتبار إسبانيا دولة تعرقل مسار تطور المغرب، لدورها في استدامة هذا النزاع. وبدأ هذا الخطاب يتبلور ثقافيا وسياسيا وتاريخيا في الأوساط المغربية، ما سيزيد من صعوبة العلاقات مستقبلا، ويجعلها تنفجر عند وقوع أدنى مشكل.
وبدورها تطرح إسبانيا تساؤلات تتجاوز ملف استقبال إبراهيم غالي ومنها: هل ينوي المغرب البحث عن حل لنزاع الصحراء بدون إشراك إسبانيا في صياغة البحث؟ هل يرغب المغرب في استغلال الوضع الحالي للانتقال إلى المطالبة باستعادة سبتة ومليلية؟ وتشير إسبانيا إلى هذا الطرح على مستوى تصريحات الوزراء، مثل وزيرة الدفاع مارغريتا روبلس، أو تولي وزراء سابقين بل حتى قادة جيش سابقين ترجمة نوايا الحكومة للعلن. ونستحضر هنا تصريح وزير الدفاع الأسبق فدريكو تريليو، الذي قال هذه الأيام «إرسال المغرب لمهاجريه إلى سبتة ليس للاحتجاج على استقبال غالي، بل كمقدمة لاستعادة سبتة ومليلية».
وتوجد ثلاث تصورات سائدة في إسبانيا حول مستقبل الصحراء والموقف الإسباني وسط الدولة العميقة «أستبلشمنت» بكل فروعها المتشعبة في الجيش والدبلوماسية والأحزاب والاستخبارات ورجال الأعمال، ويحدث أن يسود تصور على آخر في لحظة تاريخية معينة. وهذه التصورات هي مؤطرة ضمن طروحات فكرية وسياسية تعود إلى قرون، وتتغير فقط الملفات، أي اليوم الصحراء، وغدا سبتة ومليلية، وفي الماضي شمال المغرب برمته وهكذا. وهذه التصورات هي:
*في المقام الأول، تيار متطرف يدعو إلى حرمان المغرب من الصحراء، ومن سبتة ومليلية، وهو تيار تاريخي ينطلق من فكرة اعتبار المغرب العدو التاريخي الذي يهدد سلامة إسبانيا، وبالتالي العمل على إضعافه. وهذا التيار يجد جذوره الفكرية في تاريخ الفكر السياسي الإسباني، من خلال أطروحة إيزابيلا الكاثوليكية ووصاياها، ثم تبلور مع مؤسس الفكر القومي الإسباني الحديث، خاصة بشأن المغرب، ويتعلق الأمر بالمفكر ورئيس الحكومة كانوفاس ديل كاستيو في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويعد رئيس الحكومة الأسبق خوسي ماريا أثنار من أنصار هذا التيار.
*في المقام الثاني، تيار وسط يرى في المغرب الشريك الذي يجب مساعدته على استعادة الصحراء، شريطة صمته على سبتة ومليلية إلى الأبد، ويبقى مرتبطا بإسبانيا. ويرى هذا التيار في دعم الحكم الذاتي إلى مستوى جعل الصحراء بمثابة دويلة داخل دولة المغرب، سيساعد على دمقرطة المغرب، ما سيساعد على تقدم كبير في العلاقات. وتعود الجذور الفكرية لهذا التيار، أو يرتكز في تصوره على طروحات سادت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأبرز أعلامها أنخيل كانبيت الذي دافع عن ضرورة مساعدة المغرب، شريطة إبقائه تحت السيطرة.
*في المقام الثالث، تيار يدعو إلى مساعدة المغرب لبسط سيادته على الصحراء والاعتراف بذلك دوليا، شريطة تأجيل مطلب استعادة سبتة ومليلية حتى ينضج الملف، ويكون هناك اتفاق حول صخرة جبل طارق بحكم ارتباط الملفين ببعضهما بعضا. ويرى هذا التيار في المغرب شريكا رئيسيا، وينطلق من فكرة أن مغربا متقدما وقويا ومرتبطا أشد الارتباط بأوروبا، سيساعد على تغليب الحوار وستبقى إسبانيا دائما شريكه الرئيسي تجاريا وسياسيا، كما كانت قبل حرب تطوان سنة 1859. وتبلور هذا الموقف خلال منتصف السبعينيات وسط اليمين، بل حتى وسط تيارات في المؤسسة العسكرية، خاصة عندما انسحبت إسبانيا من الصحراء سنة 1975، وتعهد المغرب بعدم طرح ملف سبتة ومليلية لمدة عقد حتى تنتهي إسبانيا من الانتقال الديمقراطي. ولهذا، طرح الملك الحسن الثاني سنة 1987 خلية تفكير حول مستقبل المدينتين، أي بعد نجاح الانتقال الديمقراطي في إسبانيا. واستجابت إسبانيا بطريقة غير مباشرة من خلال تأسيس خلية ابن رشد في بداية التسعينيات، وقام اليمين الإسباني بإفراغها من أي مضمون. وتعود الجذور الفكرية لأصحاب هذا التيار إلى مفكرين ظهروا في القرن التاسع عشر مثل خواكين كوستا، وخلال القرن العشرين مثل بلاس إنفانتي، الذي نادى بوحدة بين المغرب وإسبانيا، خاصة الأندلس وشمال المغرب. بينما السياسيون الذين تبنوا هذا الطرح في القرن 21 نجد رئيس الحكومة الأسبق خوسي لويس رودريغيث سبتيرو، ووزير الخارجية الأسبق موراتينوس. وكان سبتيرو قد حاول سنة 2006 البحث عن حل إقليمي لنزاع الصحراء، على هامش الأمم المتحدة، ولهذا ضغط على المغرب لتطوير الحكم الذاتي. إنها التصورات والتيارات الثلاثة التي تطبع الفكر والسياسة الإسبانية، تجاه الجار الجنوبي وفي ملفات ومنها نزاع الصحراء.