تحتفظ ذاكرة الشعب الأمريكي بأرقام معينة من تاريخ بلادهم، ويكفي ذكر 11 ايلول/سبتمبر ليتم استحضار أكبر اعتداء إرهابي تعرضت له البلاد وكان سنة 2001 أو 7 كانون الأول/ديسمبر لاستحضار كذلك الهجوم الياباني على بيرل هاربر من سنة 1941 و22 تشرين الثاني/نوفمبر 1963 اغتيال الرئيس جون كنيدي، وينضاف تاريخ آخر وهو 6 كانون الثاني/يناير 2021 إلى ذاكرة الأمريكيين باقتحام متظاهرين الكونغرس الذي يعد “مكة السياسة” في الغرب. وهذا الحادث يعتبر بداية مرحلة جديدة في البلاد محفوفة بالمخاطر، كما كانت التواريخ السابقة إيذانا بمرحلة جديدة من تاريخ البلاد، 7 كانن الأول/ديسمبر تورط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، و11 ايلول/سبتمبر بدء الحرب ضد الإرهاب التي أعادت تشكيل جزء هام من الخريطة الدولية.
ويختلف الكثير من المحللين في وصف ما يجري في البلاد، فقد استخدمت “نيويورك تايمز” مصطلح “مافيا” في وصف ما تعرض له الكونغرس، في إشارة إلى الأفعال الاحتجاجية “للرعاع” ووصفته مجلة “ذي أتلانتيك” بـ “الهجوم على الديمقراطية المتعددة الأعراق” بينما اعتبرته وسائل الإعلام المرتبطة بمعتنقي أطروحة التفوق العرقي الأبيض بالإنذار الأخير قبل دخول البلاد مرحلة المواجهة. وتزخر الكتابات السياسية في الولايات المتحدة بالحديث عن حرب أهلية مستقبلا أو انتفاضة شريحة من الشعب أو بعض الولايات المتحدة.
وتوجد عوامل متعددة لفهم ما يجري في هذا البلد عكس استعمال البعض لمصطلحات مثل الرعاع والمافيا في شرح تبسيطي للهزة التي تشهدها البلاد، ولعل المعطى الذي يدق ناقوس الخطر هو تأييد نسبة هامة من الناخبين الجمهوريين للهجوم على الكونغرس. وبلغة الأرقام، فهذا يترجم بالملايين، علما أن 73 مليونا صوتوا للرئيس دونالد ترامب. وهذه العوامل هي:
خوف الأمريكيين البيض على مستقبلهم: يعتقد الأمريكيون البيض المنحدرين من أوروبا أنهم شيدوا “أعظم دولة في التاريخ” بسبب الإخلاص في العمل والإيمان بالدين المسيحي وخاصة المذهب الانجليكاني. واعتبروا الأمريكيين السود عالة كبيرة لهذا تعاملوا معهم بعنصرية قاتلة حتى عقد الستينيات. والآن يعتقدون أنه إضافة إلى السود هناك الأسيويين واللاتينيين الذين أصبحوا حاسمين في اختيار الرئيس وممثلي الكونغرس بغرفتيه الشيوخ والنواب، وبالتالي لم يعد “المواطنون المؤسسون” يتحكمون في مصير البلاد. ولهذا، كانت الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم 3 تشرين الأول/نوفمبر الماضي هي مواجهة بين تصورين، الأول وهو الانعزالية والتفوق العرقي للبيض الذي يمثله ترامب، والثاني هو المتمثل في البلد المنفتح المؤمن بديمقراطية “تعدد العرقيات” لتصحيح وتجاوز ما تعرض له السود في الماضي. وهذا لم يظهر فقط في الخطاب الانتخابي وصناديق الاقتراع بل في نوعية المتظاهرين بين المشاركين في تظاهرات حقوق الإنسان التي تلت مقتل جورج فلويد في مينيابوليس على يد الشرطة من جهة، ونوعية مقتحمي الكونغرس المؤمنين بالتفوق العرقي من جهة أخرى.
معاداة الإستبلشمنت: لعل القاسم المشترك بين مؤيدي ترامب من مختلف الأعراق هو السخط ضد بيروقراطية الطبقة المسيطرة على صناعة القرار السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة، وهو ما يعرف بالإستبلشمنت. ولهذا، انتعش تيار إعلامي وسياسي معادي للطبقة الحاكمة وكبريات وسائل الإعلام مثل جريدة “نيويورك تايمز” وتلفزيون “سي إن إن” ويتهمنوهم بالتورط في المؤامرة. وليس من باب الصدفة انتعاش نظرية المؤامرة وظهور جماعات سياسية وإعلامية أصبح لها حضور قوي في تشكيل الرأي العام مثل جماعة “Qanon” التي تشرف على شبكة من وسائل الإعلام عبر وسائل التواصل الاجتماعي تمتلك تأثيرا خطيرا على أنصارها. وتقدم هذه الحركة ترامب بمثابة المنقذ والمخلص للولايات المتحدة من سيطرة من يعتبرونهم “شياطين العولمة” الذين يريدون السيطرة على البلاد. وارتفعت نسبة الذين يعتقدون في تعرض البلاد لمؤامرة نتيجة بحث الطبقة المسيطرة على مصالحها، وهم في الجيش والاستخبارات والدبلوماسية ورجال الأعمال بل حتى في الأحزاب. ولهذا، يعتبر التصويت على ترامب خلال تشرين الثاني/نوفمبر 2016 رئيسا للبلاد بمثابة انتفاضة حقيقية لشريحة هامة من الأمريكيين ضد الإستبلشمنت الحاكم.
ما يجري في الولايات المتحدة ليس انتفاضة محدودة بل ظاهرة ستستمر في الزمن بحكم أن رحيل ترامب عن السلطة لا يعني رحيل مواقفه وأفكاره بل أنه كان يكتسب أفكاره من جماعات التفوق العرقي ومن المعتقدين في المؤامرة. وتوجد الولايات المتحدة أمام تحد حقيقي وهو كيفية التعامل مع هذا التيار السياسي: هل ستنجح في دفعه إلى الانتظام في حزب ولو قومي وعنصري متطرف مثلما يحدث في أوروبا مع الأحزاب القومية المتطرفة التي دخلت البرلمان بل وتشارك في حكومات بدون تجاوز خطوط حمراء، أو الدخول معه في مواجهة مفتوحة وهذا قد يؤدي إلى أحداث خطيرة منها حرب أهلية.
ومن خلال استعراض نوعية المحتجين، نجد أن أغلبهم انتمى إلى الجيش الأمريكي، وشاركوا في الحروب خلال الثلاثين سنة الأخيرة. وعكس الذين شاركوا في حرب الفيتنام وكانوا مسالمين، يتميز هؤلاء (المشاركون في حروب العراق وأفغانستان) بالرغبة في الانتقام من الإدارات التي أرسلتهم إلى الحروب، ورهانهم على المواجهة مع السلطة سيكون خطيرا على مستقبل البلاد.
لقد أدرك الرأي العام الأمريكي أن الولايات المتحدة أصبحت بعد الفترة الرئاسية لدونالد ترامب “بلدين متصارعين” ولم يعد من مهام البيت الأبيض حل النزاعات الدولية بل حل النزاع الداخلي لتفادي “بلدين متصارعين”. مثل 7 كانون الأول/ديسمبر و11 ايلول/سبتمبر، 6 كانون الثاني/يناير هو إيذان بتطورات خطيرة ولكن هذه المرة وسط البلاد وليس في الساحة الدولية.
أحداث الكونغرس الأمريكي تؤكد وجود بلدين متصارعين في بلد واحد
العلم الأمريكي منقسم الى قسمين في إشارة الى وجود بلدين في بلد واحد