منذ أن أرست مجلة “التايم” الأمريكية في العشرينات من القرن الماضي تقليد اختيار شخصية السنة، دأبت مختلف وسائل الإعلام بل والمؤسسات السياسية والثقافية اختيار شخصية أو عدد من الشخصيات بل حتى المؤسسات التي تترك بصمات واضحة على الأحداث خلال سنة واحدة. ويتعدى الأمر أحيانا إلى اختيار شخصية الألفية كما حدث مع اختيار يوهان غوتنبرغ مطور آلة الطباعة شخصية الألفية الثانية، أو العالم الفيزيائي أنشتاين كشخصية القرن العشرين.
ويخضع الاختيار لعدد من المقاييس والشروط ومنها، هل يتعلق الأمر بشخصية في مدينة أو دولة أو على المستوى العالمي ثم نوعية القطاعات وأحيانا يتم اختيار مؤسسات ومنظمات أدت دورا هاما. وتحاول وسائل الإعلام التوفيق بين فضاء اشتغالها وجمهورها ثم هيمنة شخصية تصنع الحدث بشكل مباشر أو غير مباشر يكون له تأثير سلبي أو إيجابي سواء في الحاضر أو يمتد إلى المستقبل القريب.
وفي حالة المغرب، لم تشهد الحياة السياسية والثقافية الكثير من الأسماء التي بصمت التطورات في البلاد. ووسط هذا الغياب، يبرز اسم منصف السلاوي الذي يعد عنوان فخر نظرا للمستوى العلمي الذي بلغه، وفي الوقت ذاته عنوان مأساة المغرب بعدما كشف نقاط حزينة وسلبية بل ومأساوية وهي إهمال الطاقات وقمع الحريات.
ولد منصف السلاوي سنة 1959 في أكادير جنوب المغرب، وهاجر إلى بلجيكا لإتمام دراسته الجامعية، وحقق أعلى درجات البحث العلمي في جامعة بروكسيل. ويحكي باحثون مغاربة وهم كمال المسعودي ومحمد الشكري كلاهما حاصل على دكتوراه في البيولوجيا الجزئية والفيروسات من بلجيكا وكانا يرافقانه في بعض المناسبات كيف عاد هذا العالم للتدريس في في الجامعة المغربية إبان التسعينات وجرى رفضه. لم يجد أمامه سوى العودة إلى بلجيكا ليدير أحد أكبر شركات صناعة الدواء، ثم الانتقال إلى الولايات المتحدة للتدريس والبحث العلمي والاستثمار في المجال الطبي.
والمفارقة أن هذا القادم من المغرب والذي لم يدرس في الجامعات العريقة في الولايات المتحدة مثل برينستون وهارفارد واستانفورد وكولومبيا كان الملجأ الوحيد للبيت الأبيض لتعيينه خلال مايو الماضي على رأس لجنة موسعة مكونة من المصالح الطبية والاجتماعية والبنتاغون لتنفيذ عملية Warp Speed لإيجاد لقاح لمواجهة فيروس كورونا الذي ضرب العالم.
ولم يقبل بسهولة الإشراف على اللقاء، فقد فرض شرطين على رئيس مثل دونالد ترامب معروف بعناده. ويقول منصف السلاوي في حوار مع جريدة USA TODAY يوم 1 ديسمبر “اشترطت أن لا يكون هناك تدخل سياسي في عملي ولا بيروقراطية لإبطاء سرعتهووافق البيت الأبيض على الشرطين لتكون العملية خاضعة للمنطق العلمي وليس السياسي”. والمفارقة أنه أول مواطن قادم من عمق العالم العربي ينصاع دونالد ترامب لشروطه بعدما تعامل بنوع من الازدراء مع قادة الدول العربية في الشرق الأوسط.
وبالفعل، خلال أكتوبر الماضي، أعلن السلاوي التوصل إلى لقاح موديرنا الذي يتميز عن الباقي بمستوى المناعة الصلبة ضد الفيروس وقدرته على مواجهة النسخ الجديدة ومنها النسخة التي ظهرت في بريطانيا ديسمبر 2020. وأصبح لقاح موديرنا المفضل لدى الطبقة السياسية والعسكرية في الولايات المتحدة بل وفضله عالم الفيروسات ومدير مكتب الأمراض المعدية الأمريكي فوشي على باقي اللقاحات.
ويعد منصف السلاوي مصدر فخر للعالم العربي-الأمازيغي وعلى رأسهم المغاربة بحكم انتمائه إلى هذا البلد، لكن بروزه العلمي يلقي الضوء على مظاهر حزينة في العالم العربي. وعلق أكثر من مواطن مغربي “كيف أن عالما من هذا الحجم لم يحصل حتى الآن على أي وسام من الدولة؟”. لكن الأسوأ أن حالة السلاوي تبرز ضياع الدول العربية في باحثين من مستواه وهم كثر، لم تمنحهم أوطانهم الفرصة لسببين، مواقفهم السياسية، ثم غياب دعم البحث العلمي.
ويقول محمد الشكري “منصف السلاوي يجسد هجرة الأدمغة التي تعاني منها دول العالم الثالث، أن ترفضه جامعة مغربية للتدريس فهذا يعد من باب السوريالية”. ويضيف “كمختص في البيولوجيا الجزيئية وأعرف أعمال منصف السلاوي جيدا لقد سجل اسمه في تاريخ البحث العلمي وسيذكره التاريخ ضمن الكبار مثل باستور لأنه مسؤول عن تطوير عدد من اللقاحات التي تفيد البشرية طبيا وليس فقط لقاح موديرنا، اختياره جاء بناء على سيرته العلمية”. وعمليا، أمضى ما يقرب من 30 عاما في شركة غلاكسو سميث كلاين العملاقة للمستحضرات الصيدلانية، منها 27 عاما وهو يشتغل على لقاح للملاريا، فأنجز 14 لقاحًا وطرحها إلى السوق ثم سطع نجمه حتى أصبح رئيسا لقسم البحث والتطوير للشركة بأكملها. ويعلق السلاوي “لطالما كانت اللقاحات غرامي الأول. إنه المجال الذي أحب العمل فيه أكثر من غيره”.
منصف السلاوي هو عنوان حزين لظاهرة أخرى وهي إهمال الدول العربية للبحث العلمي، بلغة الأرقام، يمكن لكل دولة إنشاء مختبرات للبحث العلمي في مجال الطب، وأرقاها يتراوح ما بين خمسين ومليون ومائة مليون يورو والبعض منها سوى عشرة ملايين دولار، وهي في متناول دول الخليج وشمال إفريقيا لاسيما وأن البحث العلمي أصبح مرادفا للربح المادي بحكم بيع الأدوية وتحول قطاع الصحة إلى مصدر هام للربح وتعزيز الأمن القومي.