كان العالم ينتظر اللقاح نهاية سنة 2020 وإذا بالخبر القنبلة يصعق الرأي العام العالمي، وهو ظهور نسخة جديدة من فيروس كورونا في بريطانيا تتميز بسرعة الانتشار وسط الناس، ومع الانتشار ترتفع نسبة الوفيات بمرض كوفيد الناتج عن هذا الفيروس. وهكذا ينتهي ويحل 2021 والعالم يتساءل هل اقتربنا من نهاية هذا الكابوس الذي فرضته الطبيعة على البشرية أم الأمر تحول إلى ما يشبه الأوبئة السابقة في تاريخ الإنسانية التي شهدت موجات امتدت إلى سنتين وثلاث بل أربع أحيانا؟
أول حجر صحي شامل في تاريخ البشرية
كانت البداية خلال كانون الأول/ديسمبر 2019 بشكل غامض في مدينة وهان الصينية وفي سوق لا يقع سوى ببضع مئات من الأمتار من مختبر كان يعمل على فيروسات من عائلة “كورونا” إنها صدفة غريبة. انتشر فيروس في صمت قاتل بين رواد السوق، ونبه الطبيب لي ويلينغ إلى خطورة الفيروس الجديد وضرورة مواجهته. لكن البيروقراطية الصينية اضطهدت الطبيب بدل التركيز على الفيروس الذي في ظرف شهر واحد كان قد انتقل إلى العالم بحكم حركة الطيران المكثفة والتبادل التجاري بين الصين وباقي القارات. وفي ظرف شهرين، وجدت البشرية نفسها تعيش فيلما حقيقيا على شاكلة فيلم “العدوى” للمخرج الأمريكي ستيفن سودربرغ المنتج سنة 2011. أقفلت الحدود وتم إجبار الناس على البقاء في منازلها مع استثناءات، لتعيش البشرية أول حجر صحي شامل في تاريخها من الهند إلى الأرجنتين مرورا بتركيا والمغرب وبريطانيا. لقد كانت مشاهد المدن الصاخبة والناطقة بالحياة مثل نيويورك وباريس وبكين وهي خالية تثير الرهبة في النفوس.
فرض الفيروس نمطا جديدا من الحياة، نهاية الأسفار والرحلات وإغلاق مراكز التسوق ودول تعمل على إجلاء رعاياها، وأخرى تحاول الحصول على حاجياتها الأساسية في ظل الخوف من المجاعة، وهو ما أعاد الشعور القومي والوطني الانعزالي ومن مظاهره تراجع التصدير تحسبا للأسوأ. وبدأ العالم يتأقلم مع الحياة الجديدة، وبدأ المسنون وخاصة في أوروبا يحكون أن ما يعيشه العالم اليوم قد عاشوه إبان الحرب العالمية الثانية. لقد كان الفيروس أشبه بالحرب العالمية الثالثة التي تعرضت لها الإنسانية ولكن هذه المرة بشكل غير منتظر وغير مرتقب.
الكمامة تنقذ العالم
لقد وضع الوباء البشرية أمام الواقع المر، فهي لم تكن تعتقد في عودة الأوبئة، رغم تنبيه أصوات وازنة مثل بيل غيتس الذي حذر سنة 2015 من وباء عالمي يستهدف البشرية. فقد سيطر نوع من الطمأنينة والارتخاء، فقد اعتقدت البشرية في بلوغ مستوى من التقدم العلمي القادر على مواجهة أي نوع من الأوبئة. كيف لا وقد وصلت إلى القمر وأرسلت سفينة فوياجير خارج المجموعة الشمسية وتستعد إلى غزو المريخ خلال السنوات المقبلة؟ اعتقد الكثيرون في نجاح العلم خلال أسابيع قليلة في احتواء الوباء، لكن الأسابيع تحولت إلى شهور، حيث من المرتقب أن تبدأ البشرية عملية تلقيح شاملة ابتداء من كانون الثاني/يناير إلى حزيران/يونيو المقبلين بعدما بدأت جزئيا نهاية كانون الأول/ديسمبر الجاري. وترتفع أصوات تقول بضرورة التعايش مع الفيروس لبضع سنوات حتى يغيب كما غابت فيروسات أخرى ومنها الأنفلونزا الإسبانية، أي “مناعة القطيع”.
ومن المفارقات الغريبة، لقد استعمل الناس الكمامة عبر التاريخ وخاصة ضد الروائح الكريهة والرياح المحملة بالغبار خاصة في الصحراء عند هبوب العواصف الرملية ثم أصبحت عنوانا لمواجهة الأمراض التي تستهدف جهاز التنفس ابتداء من القرون الوسطى، وهي الأمراض التي تهدد البشرية بالفناء إذا خرج فيروس أو بكتيريا عن السيطرة. تلك القطعة من القماش تعد جدار الدفاع الأخير للبشرية أمام شراسة الوباء في انتظار التلقيح الجماعي.
نتائج الفيروس
وباء من حجم كورونا تترتب عنه نتائج كبيرة تصل إلى مستوى المنعطف التاريخي، ويمكن اختزالها في ثلاث نتائج وهي: الشرخ بين الدول المتقدمة والفقيرة، الانتقال القوي إلى العهد الرقمي ثم الحرب العالمية الباردة الثانية.
الشرخ الاقتصادي: يعيش العالم ومنذ أكثر من أربعة قرون شرخا اقتصاديا كبيرا نتيجة الثورة الصناعية التي نجحت فيها الغرب وتخلف عنها آخرون. وأدى هذا إلى مظاهر تدريجية منها الاستعمار أساسا. ويأتي هذا الفيروس ليزيد من الشرخ الاقتصادي. وتؤكد تقارير صندوق النقد الدولي كيف ستنجح الدول المتينة اقتصاديا وهي الغربية والقوى الجديدة مثل الصين وتركيا في تخطي المصاعب الاقتصادية، في حين ستشهد الدول الفقيرة مزيدا من الفقر والتدهور الاجتماعي. ويعود هذا إلى تراجع الاستثمارات الدولية، ثم تراجع بعض القطاعات الحيوية لدول كثيرة مثل مصر والمغرب والأردن والسنغال وهي السياحة. وأخيرا، عودة الفكر الاقتصادي الوطني والذي يعني اعتماد الدول على التصنيع الذاتي، وهو ما سيجعل صادرات الدول الفقيرة تتقلص في السوق العالمية بكل ما يحمله ذلك من فقدان مناصب الشغل وتقلص الإنتاج القومي الخام للدول الفقيرة. وباستثناء الصين، لقد تراجعت اقتصاديات العالم بما بين 5 إلى 25 في المئة من الناتج الإجمالي الخام، باستثناء الصين، وهي أرقام دالة على الفقر الذي يتهدد الجميع لاسيما في الدول الضعيفة التي تسمى “العالم الثالث”.
الحرب الباردة الجديدة: خلال هذا الوباء العالمي، يشهد العالم حربين، الأولى التي تشنها البشرية ضد الفيروس بنوع من التنسيق في حده الأدنى تقوده المنظمة العالمية للصحة، والثانية هي حرب باردة عالمية جديدة بين الصين والولايات المتحدة بعد تلك التي دارت بين الغرب والاتحاد السوفييتي. وتتجلى هذه الحرب في نقطتين أساسيتين، من المسؤول عن انتشار الفيروس ثم الاستقطاب الذي يشهده العالم ويمتد إلى اللقاح؟
وكتبت جريدة “لوموند” في افتتاحيتها يوم 30 نيسان/أبريل 2020 “بعد الجائحة، عالم جديدة يتشكل” وتحدثت عن الحرب الباردة. وعمليا، هذه الحرب بدأت بشن الرئيس دونالد ترامب حملة قوية ضد الصين، فقد اتهمها بالوقوف وراء الفيروس لأسباب ما، سواء بشكل متعمد أو غير متعمد بهدف ضرب الغرب وأساسا الولايات المتحدة حتى يتسنى لها زعامة العالم. وهذه أول مرة، يقوم رئيس دولة غربية بالترويج بقوة لما يصطلح عليه “المؤامرة” في تفسير ظهور فيروس تحول إلى جائحة. وهدد ترامب باللجوء إلى القضاء الدولي لملاحقة الصين بسبب هذه المؤامرة.
وتذهب كل التحاليل إلى ارتفاع حدة الاستقطاب بين بكين وواشنطن وكيف نجحت الأخيرة في الخروج منتصرة حتى الآن. فقد سيطرت الصين على الوباء، ولم يتجاوز عدد المصابين مئة ألف في ساكنة تتجاوز المليار و200 مليون نسمة، ولم تتعد نسبة الوفيات خمسة آلاف، مقابل ما يفوق 13 مليونا من الإصابات وربع مليون في الولايات المتحدة. وفي الوقت ذاته، تعاملت بكين بذكاء مع سياسة ترامب التي يصفها الكثيرون بالعشوائية، فقد رفعت من ميزانيتها لصالح منظمة الصحة العالمية بعد قرار ترامب الانسحاب من هذه المنظمة. وبعدما نهج ترامب الانعزالية عن باقي العالم وأبدى مواقف غير إنسانية مثل التشديد على أولوية المواطنين الأمريكيين في اللقاح بدل المهاجرين ومنع تصدير اللقاح، قامت الصين بتقديم المساعدات إلى أكثر من نصف دول العالم بما فيها دول غربية مثل إيطاليا. وكانت الوحيدة ضمن القوى الكبرى التي تعهدت بضرورة تحويل اللقاح إلى “منفعة عامة عالمية” وفق تصريحات الرئيس الصيني جين بينغ يوم 18 ايار/مايو 2020 أي ستتيحه بأسعار تفضيلية للدول الفقيرة بل وعدم الاحتفاظ بالملكية الصناعية وتسهيلها للجميع. وبموقفها هذا، أرادت عدم تحويل اللقاح إلى أداة جيوسياسية للاستقطاب السياسي. ووفق أرقام الواضع، خرجت الصين منتصرة في الجولة الأولى من الحرب الباردة الجديدة، فقد حافظت على النمو الاقتصادي بينما تراجعت اقتصاديات الغرب، وسيطرت بشكل مثير على الجائحة واستأنفت حياتها الطبيعية بشكل شبه تام، بينما الغرب ما زال يعيش الحجر الصحي بين الحين والآخر.
الانتقال إلى العهد الرقمي: إلى جانب الكمامة التي شكلت سدا منيعا في وجه كورونا، تعد الإنترنت الأداة التي ساهمت في تخفيف تأثيرات الجائحة عن البشرية. ورغم بدء انتشار الإنترنت في منتصف التسعينات من القرن الماضي وتبوأها مكانة هامة في الحياة العامة منذ أكثر من عقد، إلا أن الجائحة تعتبر المنعطف الحقيقي. فقد انتقلت البشرية إلى العمل من المنزل في الأعمال الإدارية بدل مقر العمل الكلاسيكي، وساهمت في الحفاظ على مستوى معين من التجارة بفضل شركات مثل أمازون، وأخيرا وهو الأهم ساهمت على استمرار التعليم الذي يعد الركيزة الأساسية للدول. يجب انتظار دراسات لمعرفة المساهمة الحقيقية للإنترنت والبرامج المرتبطة بها في الحفاظ على مناصب الشغل والحفاظ على عدم مزيد من تقهقر الإنتاج القومي الخام. وكما انتقلت البشرية بعد الطاعون إلى عهد المطبعة، الآن تنتقل بعد جائحة كورونا إلى العهد الرقمي.
رغم كل شيء انتصرت البشرية
لقد عانت البشرية من الكثير من الأوبئة، وكانت تذهب بأرواح عشرات الملايين من البشر، على الأقل وفق المعطيات التي يوفرها التاريخ بشأن الأوبئة التي حصلت خلال السبعة قرون الأخيرة. وحتى الماضي القريب، ما بين سنتي 1918-1920 حصد وباء “الأنفلونزا الإسبانية” حياة ما يقارب من مئة مليون شخص وفق الأبحاث الحديثة ومنها كتاب “بال ريدير” للاورا سبيناي، وأصاب قرابة 450 مليون شخص، 25 في المئة من مجموع البشرية التي كانت تقدر وقتها بمليار و800 مليون نسمة. وتبقى المعطيات المرتبطة بالطاعون الذي ضرب العالم إبان الأربعينات من القرن 14 مرعبة، حيث قضى على نصف ساكنة أوروبا وشمال أفريقيا ونسبة لا تقل في القارة الآسيوية، ولهذا اكتسب الأسم الرهيب “الموت الأسود”.
وتعد الأوبئة التطبيق الحقيقي لنظرية داروين وهي “البقاء للأقوى” حيث كانت تذهب بأرواح الذين لا يستطيعون المقاومة والصمود وتبقي على الأقوياء. وبعملية حسابية، الأوبئة حصدت من الأرواح البشرية أكثر بكثير من الحروب التي تعد ميزة ملتصقة بالبشر بسبب مختلف أسباب الصراع وخاصة التنافس والاقتتال حول الموارد. وبدون شك، لو تم سؤال أي خبير في الجغرافية البشرية حول كم كان سيكون عدد الناس في الوقت الراهن في كوكب الأرض بدون الضحايا التي حصدتها الأوبئة عبر التاريخ؟ لكان رقم مئة مليار نسمة قليلا، أو أن البشرية لكانت قد طبقت مفاهيم أخرى منها الموت عند بلوغ سن معينة للحفاظ على التوازن، وكان هذا يحدث في بعض الثقافات وإن كان بشكل نادر كما جاء في الفيلم الياباني الشهير “جولة ناراياما” للمخرج إيماموار شوهي سنة 1983 حيث تنزوي الجدة في الجبل في انتظار الموت لكي تترك لحفيدها فرصة الحياة نظرا لقلة الموارد في القرية، وكان هذا شأن كل من بلغ سن 70.
ومقارنة للأرقام، ورغم روح الهزيمة والإحباط الذي يسيطر على شريحة كبيرة من ساكنة الكوكب بحكم حالة الجمود التي فرضها الوباء على العالم، يمكن الجزم بأنها المرة الأولى التي تنتصر فيها البشرية على وباء يهددها. واعتمادا على جائحتي الطاعون الأسود في الأربعينات من القرن الرابع عشر، أصيبت نصف البشرية بالوباء ولقيت نصف البشرية في أوروبا والبحر الأبيض المتوسط وآسيا الشمالية والصين حتفها بحكم أن الوباء لم يصل إلى القارة الأمريكية التي لم تكن قد جرى اكتشافها، ولا إلى قلب أفريقيا أو جنوب شرق آسيا. ولقي ما بين 3 إلى 5 في المئة من البشرية حتفهم إبان الأنفلونزا الإسبانية و25 في المئة أصيبوا بالوباء. وخلال وباء فيروس كورونا بالكاد وصلت نسبة المصابين إلى 1.14 في المئة من ساكنة الكوكب بينما عدد الوفيات هو 0.13 في المئة. وهذا يعد انتصارا للبشرية على الوباء، ويحصل لأول مرة في تاريخ الإنسانية. ولو كانت البشرية قد سجلت نسبة مثل الإنفلونزا الإسبانية، لكان عدد الوفيات هو 350 مليون وعدد الإصابات يقارب مليار و800 مليون، بدون شك سيناريو مستوحى من أعمال دانتي.
وعموما، ورغم هذه الانتقادات التي تصدر عن الكثير من الناس بمن فيهم باحثون حول عجز العلم، إذ لأول مرة في تاريخ البشرية تنجح الأخيرة في ظرف زمني قصير لا يتعدى الشهور التوصل إلى دواء، أي اللقاح، قادر على مواجهة الوباء أو على الأقل الحد منه بشكل كبير. لقد بدأت الأبحاث خلال شباط/فبراير، وخلال منتصف الصيف كانت اللقاحات الأولى جاهزة، الصينية سينوفارم والروسية سبوتنيك جاهزة ولاحقا خلال تشرين الأول/أكتوبر الأمريكية-الألمانية فايزر والأمريكية موديرنا والبريطانية أسترازينيكا.
قد يغيب الفيروس فجأة كما غاب فيروس الأنفلونزا الإسبانية سنة 2020 وقد تكون نهايته على يد اللقاح، وفي كلتا الحالتين تكون البشرية ولأول مرة في تاريخ وجودها على هذا الكوكب قد انتصرت أو قلصت من التأثيرات المرعبة لفيروس قاتل.