الانتخابات الرئاسية الأمريكية: حرب أهلية في صناديق الاقتراع والفائز بايدن

شهدت الولايات المتحدة يوم 3 نوفمبر 2020 انتخابات رئاسية، هي 59 منذ التأسيس، وأقل ما يصطلح عليها بأنها تاريخية بكل المقاييس الى مستوى “المنعطف” في تاريخ هذه الأمة. فهي لم تكن انتخابات عادية ولم تكن مواجهة بين رئيس شعبوي وهو دونالد ترامب الباحث عن الولاية الثانية ومرشح قادم من الدولة العميقة جو بايدن ونجح في الظفر بها ليصبح الرئيس 46 للبلاد، بل كانت بين تصورين وهما: أمريكا العتيقة التي ترغب في الحفاظ على الجذور الأولى للبلاد وترغب في الحفاظ على زعامة العالم من منظور وطني محض، وأمريكا المستقبل التي تتطلع الى التأقلم مع التطورات والحفاظ على زعامة العالم من منظور عالمي. وعليه، فهذه الانتخابات في العمق والواقع حرب فكرية وسياسية جرت في صناديق الاقتراع ولم تنتهي فصولها الأخيرة.

انطلقت الحملة الانتخابية منذ شهور، وأجمعت استطلاعات الرأي على فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في مواجهة الجمهوري ترامب، ومنحت الأول تقدما لا يقل عن سبع نقاط، ومع احتساب هامش الخطأ والمفاجأة ساد الاعتقاد باستحالة عدم فوز بايدن بثلاث نقاط كفارق في الأصوات. وتبرز النتائج المؤقتة والتي منحت الفوز لبايدن بأكثر من ثلاث نقاط بعدما استعاد ولايات ديمقراطية مثل ميتشغان وويسكونسين وقام باختراق ولايات جمهورية تاريخيا مثل جورجيا وأريزونا. ولم تكن استطلاعات الرأي غير موفقة بل جزء من الناخب الأمريكي وهو الناخب الأبيض البروتستانتي يخفي نواياه الانتخابية.

وعودة الى تاريخ الولايات المتحدة، يمكن العثور على أجواء مماثلة لهذه الانتخابات في تلك السنوات التي أعقبت الحرب الأهلية الأمريكية ما بين 1861-1865، ثم في الانتخابات التي أعقبت الأزمة المالية الكبرى سنة 1929. وجرت هذه الانتخابات في ظل العنف اللفظي السياسي الذي أرساه الرئيس ترامب في المجتمع الأمريكي ثم الاضطرابات التي تلت مقتل الأمريكي الأسود فلويد على يد شرطة مينيسوتا.

وعليه، تتعدى هذه الانتخابات المواجهة بين شخصين بل تمتد الى مواجهة بين تصورين يتواجدان في الساحة السياسية والفكرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الأولى، تاريخ انخراط الولايات المتحدة في السياسة العالمية بكثافة، ولكن الآن تشهد المواجهة مرحلة من الراديكالية لم يسبق لها مثيل بسبب سياسة الرئيس المؤقت دونالد ترامب، وذلك لتحديد بوصلة البلاد خلال العقدين المقبلين على الأقل.

 

ترامب ممثل أمريكا الأنغلو-بروتستانتية

في هذا الصدد، يمثل دونالد ترامب الجذور العتيقة للثقافة والممارسة السياسية التي تقوم على الانعزالية ونوع من الطائفية. وتتجلى الانعزالية في الانغلاق الأمريكي مجددا على النفس أي إنتاج الولايات المتحدة ما تحتاجه من مواد غذائية والطاقة والصناعة، فهي الدولة الوحيدة التي لديها القدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف القطاعات باستثناء بعض الواردات الضرورية مثل المعادن النادرة التي تقوم عليها الصناعة التكنولوجية الجديدة. ولهذا السبب قام بإعادة النظر في العولمة وفرض رسوم على الواردات هدف تشجيع الإنتاج المحلي واستعادة الصناعات الأمريكية التي تمركزت في الخارج، واستهدف الواردات الصينية أساسا. ولهذا كان يروج أنه نجح بهذه الاستراتيجية في تقليص البطالة الى 3%.

في الوقت ذاته، نهج ترامب سياسة ترمي الى إعادة الريادة والأفضلية إلى “العرق الأبيض” أي أمريكا البيضاء” أو “القومية البيضاء” والإيمان العميق بالتفوق العرقي على باقي الأعراق. وترجم سياسته هذه من خلال تهميش باقي الإثنيات مثل السود والأسيويين والتقليل من اللاتينيين في المجتمع الأمريكي عبر سياسة عنصرية مقيتة مثل اتهام اللاتينيين بالجريمة المنظمة والاغتصاب والمخدرات، أي جعل اللاتيني “مصدر الخطر” و”منبوذ المجتمع”. ويضاف الى هذا محاربة باقي الأديان من خلال منع قدوم المسلمين للحفاظ على الولايات المتحدة أرضا مسيحية خالصة، لهذا كان أول قرار له هو منع دخول عدد من المسلمين من ست دول تحت مبرر محاربة الإرهاب لتفادي قرار قضائي. وكان ترامب قد تساءل بعنصرية مقيتة “لماذا لا يأتي مهاجرون من السويد والنرويج ويأتون فقط من إفريقيا والمكسيك”. تساؤل يكشف عمق رؤيته العنصرية وتصوره لما يجب أن تكون عليه الولايات المتحدة.

ويردد الكثير من المحللين بنوع من التبخيس بغياب التكوين السياسي لدى ترامب ونعته بصاحب العقارات. والواقع أنه شيد صرحا سياسيا جديدا يشكل خطورة حقيقية مستقبلا. فقد أزاح الحزب الجمهوري عن سكة “الحزب المحافظ” المتفتح نسبيا كما كان عليه في عهدي جورج بوش الأب والابن، الى الحزب الذي يتبنى مزيجا من أفكار “أمريكا العتيقة البيضاء” واليمين البديل المعروف ب ”  Alt-Right الذي يعد ستيف بانون من وجوهه البارزة والذي كان مدير حملة ترامب سنة 2016 ومستشاره للأمن القومي لاحقا. إن البرنامج الحقيقي لترامب ومن يقف وراءه هم خليط من أطروحات مفكرين مثل جاريد تايلور عبر أداته الإعلامية “النهضة الأمريكية” التي تروج لما يعرف ب “الواقعية العرقية”  وغريغ جونسون وأساسا أطروحة صامويل هنتنغتون المصاغة أكاديميا في كتاب “من نحن”.  ولمعرفة البوصلة الجديدة لما يمكن تسميته مجازا “الظاهرة الترامبية” هو العودة الى هذا الكتاب الذي رغم خطورته الفكرية لم يلقى الانتشار الذي شهده كتاب “صدام الحضارات”، وخاصة الفصل السادس والسابع من الكتاب حيث يشدد هنتنغتون على مفهوم الهوية وضرورة استمرار الولايات المتحدة دولة المستوطنين وليس المهاجرين، ودولة بروتستانتية للبيض بالدرجة الأولى. ويبرز هنتنغتون معاداة مطلقة للهويات الفرعية في البلاد. ويبقى الفرق بين الراحل هنتنغتون ومنظري التفوق الأبيض أن الأول يعتقد في إنجاز ما يدعو له عبر الإستبلشمنت سواء الديمقراطي أو الجمهوري بينما المنظرون الجدد يعادون الإستبلشمنت، ولهذا كان تأييدهم اللامحدود لترامب القادم خارج الإستبلشمنت.

أمريكا البيضاء العميقة المؤمنة بالبروتستانتية “الأنغلو-بروتستانتية”  هي التي ذهبت للتصويت على ترامب في صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية، أمريكا التي تؤمن بالانعزالية عن العالم وتعتقد في نوع من الطائفية إثنيا ودينيا.

 

بايدن وأطروحة وطن القوميات

ردد الكثير من المحللين غياب الجاذبية السياسية لدى المرشح الديمقراطي جو بايدن. وبعض النظر عن شخصيته السياسية، فسيناريو المواجهة الفكرية في هذه الانتخابات كان سيكون مكتملا لو كان المرشح هو الديمقراطي بيرني ساندرز الذي يمثل النقيض المرشح الجمهوري.

ورغم ذلك، نجح جو بادين وفريقه في تحقيق توازن في البرنامج السياسي دون الانجرار الى الأطروحات الراديكالية يسارا. فقد دافع بايدن على التصور القائم بشأن الهوية الأمريكية وهي “أمريكا ذات الهويات المتعددة” التي ترحب بكل مكوناتها العرقية. وتستمد رؤيتها من أطروحة هوراس كالن الذي نادى ب “أمة القوميات” التي تشجع المواطنين القدامى والجدد على الاحتفاظ بهوياتهم الأصلية والاندماج في المجتمع الأمريكي بدل “عملية الأمركة الخالصة”.

وآمن الحزب الديمقراطي بهذه الأطروحة ونهجها، ولكنه جسدها في هذه الانتخابات الحالية بشكل كبير نظرا لقوة الجناح اليساري التقدمي بزعامة بيرني ساندرز ونظرا لضرورة تقديم بديل لأطروحة ترامب الانعزالية والطائفية. ومن ضمن الأمثلة التي تعكس هذا التوجه في الخطاب والممارسة السياسية في هذه الانتخابات الأولى وهي اختيار بايدن كمالا هاريس نائبة للرئيس، وبالتالي ستكون أول امرأة تشغل هذا المنصب في تاريخ البلاد، وهي تنتمي الى الجيل الثاني من المهاجرين علاوة على أنها ليست بيضاء. كما جسده في الدفع بنسبة كبيرة من الإثنيات والعرقيات الأخرى للدخول الى الكونغرس بغرفتيه النواب والشيوخ، ومن عناوين ذلك انضمام أربعة أمريكيين من أصل عربي الى مجلس النواب وعدد من اللاتينيين الى مجلس الشيوخ. ثم إعادة الاعتبار الى المهاجرين المسلمين بالتعهد برفع فيتو ترامب على بعض مسلمي الدول مثل سوريا واليمن والإشادة القوية بدور مهاجري أمريكا اللاتينية ولاسيما المكسيكيين الذين قام ترامب بتجريمهم.

كما يؤمن بايدن بزعامة الولايات المتحدة للعالم الحر ونشر الديمقراطية، ولعل من القرارات الأولى التي سيتخذها هي التوقيع على اتفاق باريس للبيئة الذي انسحب منه ترامب والعودة الى منظمة اليونسكو ومنظمة الصحة وعدم محاباة الدكتاتوريين وعلى رأسهم دكتاتوريي العالم العربي.

لقد جسد الحزب الديمقراطي في هذه الانتخابات أمريكا المتعددة الثقافات التي لا تؤمن بمجموعة قوية خالصة يتشارك أفرادها التاريخ والثقافة والمذهب البروتستانتي.

 

حرب أهلية وقطبية راديكالية

الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة تتعدى المواجهة بين ترامب الشعبوي وبايدن الهادئ الى مواجهة بين تصورين عميقين للمجتمع الأمريكي، تصور أمريكا الأنغو-بروتستانتية ذات التوجه العنصري والانعزالي الذي أحياه ترامب بقوة، وأمريكا أمة القوميات الحاضنة للجميع. ولهذا، صوت الأمريكي المقيم في مدن محافظة صغيرة أو القرى على ترامب، وصوتت المدن الكسموبوليتية ذات التنوع الثقافي والإثني على بادين. وقفت ولايات شبه بيضاء مثل نبراسكا وايداهو الى جانب الجمهوري وأخرى متنوعة مثل كاليفورنيا ونيويورك الى صف بايدن.

تميزت هذه الانتخابات بقطبية لم تشهدها الولايات المتحدة سوى في الحرب الأهلية خلال الستينات من القرن التاسع عشر، لهذا كانت نسبة المشاركة تاريخية كما أن الفائز وهو بايدن حقق أعلى نسبة من الأصوات في تاريخ البلاد بحوالي 75 مليون صوت.  لقد كانت الانتخابات الرئاسية 59 في تاريخ الولايات المتحدة حربا أهلية فكرية وسياسية  جرت في صناديق الاقتراع.

Sign In

Reset Your Password