وصلنا إلى القمر ونخطط للوصول إلى المريخ، واكتشفنا الحمض النووي وجينوما الإنسان، ونقف عاجزين أمام إيجاد لقاح لفيروس متوسط العدوى مثل فيروس كورونا» إنها مجموعة من الأسئلة التي ترددها شريحة كبيرة من الرأي العام العالمي، وهي ترى كيف يعمل الوباء الحالي على بعثرة مسيرة الشعوب، وتغيير إيقاعها العادي، الذي اعتادت عليه منذ فترات طويلة.
وهذا يدفع إلى التفكير في وجود مؤامرة وراء الوباء، والتأخر في إيجاد اللقاح. وبعيدا عن هذه الفرضية: أين يكمن الخلل: هل في ضعف البحث العلمي؟ أو في تحديد أهداف البحث العلمي؟
يحمل فيروس كورونا، أو كوفيد-19 صفة الوباء العالمي، وهو عالمي من حيث الانتشار الجغرافي، بعدما مسّ معمورة الأرض، ويعد الوباء الأكثر تناقضا في التاريخ حتى الآن. أولا، هذا الوباء لم يسبب الكثير من الوفيات مقارنة مع الأوبئة التي شهدتها البشرية في الماضي، ومن باب المقارنة، فقدت تسببت الأنفلونزا الإسبانية خلال الشهور الأولى ما بين إبريل/نيسان إلى ديسمبر/كانون الأول من سنة 1918، أي الموجة الأولى، في وفاة 20% من المصابين، أي ما يعادل 25 مليون شخص، وارتفع العدد إلى قرابة 30% إبان الموجة الثانية من ذلك الوباء، وتراجع إلى النصف في الموجة الثالثة، وبلغ عدد الوفيات الإجمالية أكثر من 50 مليون شخص، بينما أصيب ربع البشرية وقتها بالوباء، أي 450 مليونا من أصل مليار و800 مليون عدد الساكنة وقتها. وبعد قرابة تسعة أشهر من وباء كورونا، ما بين ظهوره في الصين، إلى بداية الأسبوع الجاري، أصيب فقط 23 مليون شخص، وتم تسجيل أكثر من 800 ألف وفاة، مع ملاحظة أن عدد سكان العالم الآن يتجاوز سبعة مليارات نسمة.
ثانيا، يبقى وجه التناقض في عدم تسبب الأنفلونزا الإسبانية في خسائر مادية كبيرة، بل كانت محدودة بحكم بساطة الاقتصاد العالمي وقتها، في حين يعيش الاقتصاد العالمي حاليا جمودا وترقبا، بدأ يخلف عشرات الملايين من الضحايا، وسيكون تأثير الخسائر على المستوى البعيد في الناس أكثر من تأثير الوباء صحيا. وعجز العلماء على إيجاد تفسير موحد للأنفلونزا الإسبانية، وجرى خلال العقد الماضي استخراج جثة دفنت في بلدة قطبية في ريفيغ في ألاسكا لمرضى من السكان الأصليين، أصيبوا بهذا الوباء لدراسة هذا الفيروس، ودفنت الجثث في تربة مجمدة، وأصبحت الجثث مثل المومياء. ولم يتوصل العلماء إلى رأي موحد حول أصل الوباء، ولا مصدره. وتعد هذه البلدة في ألاسكا عنوان مأساة الأنفلونزا الإسبانية، فقد قتل الوباء خلال نوفمبر/تشرين الثاني 72 شخصا من أصل 80 من ساكنة القرية، التي كانت توجد في منطقة معزولة نهائيا عن العالم. والسؤال: هل عجز العلم فعلا عن إيجاد لقاح لتعزيز المناعة ضد فيروس كورونا، وعن دواء لمعالجة المترتب عنه وهو الكوفيد – 19؟ الجواب سيكون نعم ولا. سيكون نعم بحكم أن معالجة الأمراض المعدية المرتبطة بجهاز التنفس، لا تشكل أولوية في أجندة شركات تصنيع الأدوية، التي تفرض أجندة معينة على الباحثين، حيث تحدد لهم مسبقا مجال البحث، وغالبا ما يكون الأمراض المزمنة، بهدف تحقيق الربح المادي الكبير. وتعد أرباح شركات الصيدلة أكثر من شركات بيع الأسلحة بعشرات المرات، وهي ضمن القطاعات الثلاثة الي تخلف أرباحا قياسية إلى جانب قطاع الاتصالات، وما يرتبط به من صناعة الهواتف ثم النفط. وتعمل مجلات عملية كبرى ضمن أجندة هذه الشركات. ووقف العالم على أكبر عمليات تزييف تصل إلى مستوى الإجرام مثل حالة مجلة «ذي لانسيت» خلال شهر مايو/أيار الماضي عندما نشرت بحثا مختلقا ضد دواء كلوروكين المستعمل في مواجهة كوفيد-19.
وعلاقة بهذا، فقد تخلت الدولة عن دعم الباحثين المستقلين في الجامعات، وبالضبط في كليات الطب، إذ أن كبار العلماء مثل الفرنسي لويس باستور، والألماني روبرت كوش من رواد علم الأحياء الدقيقة في الطب، لم يخضعا لأجندة الشركات التي لم يكن لها نفوذ وقتها، بل اشتغلا في العلم وبتمويل بسيط ساهما في إنقاذ البشرية من الأمراض، وأرسيا مفهوم اللقاحات. وحالة لويس باستور وكوش هي حالة باقي العلماء السابقين، وحتى السبعينيات من القرن الماضي. لقد كان الباحثون يتوصلون إلى نتائج علمية مبهرة، وكانوا الوجه البارز في مجتمعاتهم. كل هذا اختفى بعد هيمنة أجندة الشركات الكبرى في مجال الطب. والعجز الواقع هو نتيجة هذه الشركات، إنها تشبه تلك الأنظمة الحاكمة، التي تتشدق بالديمقراطية ولديها ممارسات مستبدة. وفي الوقت ذاته، يمكن القول إن العلم ليس عاجزا في حالة التوصل إلى لقاح سريع ضد فيروس كورونا، أي قبل نهاية السنة الجارية. وسيكون لأول مرة في تاريخ البشرية يتم إيجاد لقاح لوباء عالمي في ظرف زمن قصير للغاية، بعدما كان العمل على لقاحات الأوبئة الأخرى في الماضي، تستمر زمنا طويلا. ولعل هذا مرده تولي الدول الإشراف على البحث العلمي ضد فيروس كورونا، فاللقاح الصيني الذي بلغ المرحلة السريرية الثالثة يجري تحت إشراف الجيش، والأمر نفسه مع اللقاح الروسي، الذي دخل مرحلة التنفيذ، حيث يساهم فيه الجيش بقسط كبير، كما أن البنتاغون يشرف ويساهم في ابحاث اللقاح الأمريكي.
لعل الدرس الرئيسي الذي يجب على البشرية استخلاصه من الوباء الحالي هو ضرورة عودة إشراف الدول مباشرة على البحث العلمي، ضد الأمراض الخطيرة بدل تركها في يد الشركات المتعددة الجنسيات، التي لديها أجندة ربح مالي تعتمد التخفيف من الأمراض، ولا تحمل هم معالجة الأمراض جذريا. ويبقى دعم الباحثين المستقلين هو الوسيلة الوحيدة لكي نشهد مجددا علماء من طينة لويس باستور.