أقدم ثلة من أصحاب الرأي والصحافيين والكتاب في المغرب على إطلاق مانفستو، أو بيان من أجل الالتزام بضوابط أخلاقية في مزاولة مهنة الصحافة، لما عرفته من انحدار ونزوع للتشهير والاختلاق، وعلاقات مشبوهة بين بعض الصحف والمواقع وسلطات أمنية، فضلا عن ملاحقات للصحافيين، وأحكام قاسية في حقهم وعدم تمتعهم بما يكفله القانون لكل مواطن من قرينة البراءة، أو المتابعة في حالة سراح، أو إجراءات التخفيف والعفو في حال صدور حكم.
هل يمكن لمجتمع حديث أن يعيش بدون صحافة؟ وهل يمكن لدولة ترنو إلى أن تكون حديثة أن تعيش من غير صحافة حرة؟ وهل تستقيم الصحافة الحرة بدون أخلاقيات؟ وهي الأسئلة الملحة للهيئات المنظمة لمهنة الصحافة، ومنظمات حقوق الإنسان والجسم الأكاديمي والنيابة العامة والقضاء والمجتمع المدني، فضلا عن الدولة.
في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، عرفت الصحافة المغربية طفرة نوعية، كانت الصحافة قبلها موزعة بين صحافة رسمية محدودة الأثر، هي لسان حال السلطة، تحظى بدعمها، ولكن بغياب المقروئية، وصحافة حزبية أبرزها جريدة «الاتحاد الاشتراكي» لسان حزب الاتحاد الاشتراكي ذي التوجهات الاشتراكية والقومية، وكانت جريدة واسعة الانتشار، ولها تأثير كبير في صياغة الرأي العام، وإلى جانب هذين الاتجاهين، كانت هناك صحافة اقتصادية فرانكوفونية قريبة من الأوساط المالية والاقتصادية في الدار البيضاء.
برزت براعم صحافة حرة، كما كانت تُنعت عقب ما عرفه المغرب سنة 1996، وعُرف بحملة التطهير في محاكمات للمقاولات الكبرى، بدعوى عدم احترام ضوابط التصدير والاستيراد، والاغتناء من خلال تجاوزات وعلاقات مشبوهة مع الإدارة، وضد أباطرة المخدرات. تحولت الحملة من عملية يراد لها تخليق القطاع الاقتصادي إلى عملية تصفية حسابات، وأفضت إلى اعتقالات جزافية، وترتب عنها توقف الاقتصاد، وفقدان الثقة الضمنية بين المخزن والرأسمال.. وكان ذلك تحولا في العلاقة الضمنية بين رجال الأعمال والمخزن، واهتزاز العقد الضمني بينهما، ولجأت فئة من رجال الأعمال إلى الدفاع عن مصالحها من خلال دعم صحافة مستقلة، وتمثل أسبوعية «لوجرنال» بالفرنسية أبرز تجربة للصحافة المستقلة، من خلال رجل أعمال متميز هو المرحوم فاضل العراقي، واقتصادي لامع هو بوبكر الجامعي، وهي تجربة واكبها فور إطلاقها كاتب هذه السطور. انتقلت أسبوعية «لوجرنال» من صحافة اقتصادية إلى سياسية بالأساس، وتميزت بجرأتها في طرح قضايا كانت من التابوهات، عن أوضاع حقوق الإنسان في المغرب، وما يعرف بسنوات الرصاص، وفسح المجال لمن كانوا من المنبوذين للحديث. وبسرعة حفرت الأسبوعية مكانتها في المشهد الصحافي والسياسي، وأضحت سلطة مضادة تقض مضاجع السلطة، ولكن السلطة تعاملت معها حينها ولو على مضض، وأدركت أنها تعبير عن قضايا جيل جديد. أنشأ الفريق أسبوعية بالعربية هي «الصحيفة»، مع تحول المشهد الثقافي في المغرب، المتمثل في ذيوع القراءة باللغة العربية. في تلك الفترة ظهرت تجربة رائدة هي يومية «الأحداث المغربية» (بالعربية) استطاعت في ظرف وجيز أن تنحت مكانا في الإعلام وفي المشهد الثقافي، وترسم حينها توجها جديدا بعيدا عن القومية العربية، وبعيدا عن الأرثوذكسية الاشتراكية، قريبة مما كان يسمى بالاشتراكية الديمقراطية، ويندرج في الحداثة لمواجهة الحركة الإسلامية الناشئة.
عرف المغرب حينها تغييرات سياسية عميقة، أهمها حكومة التناوب برئاسة المرحوم عبد الرحمن اليوسفي، واعتلاء الملك محمد السادس مقاليد الحكم، وأضحت «لوجرنال» و»الصحيفة» عمليا سلطة معارضة، أمام ضعف ما يسمى بالأحزاب الإدارية، التي لم تكن لها صحافة قوية، ولا تنظيمات موازية، سوى كونها مجموعة من الأعيان تشكل ماكينات انتخابية. تنامي دور «لوجرنال» شكّل مصدر إزعاج للسلطة، وعرفت مجموعة لوجرنال سلسلة من المضايقات، وتشجيع خلق كلونات أو أشباه، كما أسبوعية «الأيام» بالعربية و»تيل كيل» بالفرنسية لمنافستهما، وانتهى الأمر بإغلاق مجموعة لوجرنال، التي تظل تجربة متميزة ليس فقط على مستوى المغرب.
في بداية الألفية، برزت في المغرب تجربة صحافية رائدة باللغة العربية هي جريدة «المساء»، وبسرعة فائقة نحتت حضورها.. كانت تعبيرا عن جيل جديد، وثقافة جديدة غير متأثرة بالفرنكوفونية، وأقرب ما تكون إلى الاتجاهات الإسلامية، أو تعكس توجهاتها، وبرزت فيها أقلام لامعة أسهمت في ذيوعها، من خلال جرأتها وقدرتها على التحليل أو النكاية. لكن الثلاثي الذي كان وراء نجاح التجربة، علي أنوزلا وتوفيق بوعشرين ورشيد نيني، فضّل كل واحد منهم أن يخوض تجربته الخاصة. أنشا أنوزلا «الجريدة الأخرى»، وتوفيق بوعشرين «أخبار اليوم»، وبقي رشيد نيني في «المساء».
أفرز سياق ما بعد الربيع العربي وضعا جديدا تمثل في بروز الصحافة الإلكترونية التي أخذت تزاحم الصحافة الورقية، واتسم كذلك بتحكم السلطة في عاملين أساسيين مؤثرين في الصحافة وهما، سوق الإشهار والتوزيع، ولم تثبت جريدة «المساء» للتحولات التي أفرزها سياق الربيع العربي، وتعرضت لاهتزازات، وغادرها رشيد نيني لينشئ جريدة جديدة هي «الأخبار»، لكن «المساء» صمدت أمام عوامل التعرية، واغتنت بجيل جديد من الصحافيين، أبرزهم سليمان الريسوني ومحمد أحداد ورشيد شريت وآخرون، مع شخصية محافظة ومتزنة هو عبد الله الدامون رئيس التحرير، لكن العد العكسي كان قد بدأ لهذه التجربة الرائدة. ظلت جريدة «أخبار اليوم» المعبرة بلا منازع عن الدينامية التي يعرفها المجتمع المغربي والعالم العربي، وأقرب ما تكون في توجهها إلى الحركية التي يعرفها العالم العربي، مع علاقات وطيدة مع مؤسسات نافذة إعلاميا وفكريا في قطر وتركيا، وقريبة من حزب العدالة والتنمية في المغرب، أو على الأصح من رئيس الحكومة حينها عبد الإله بنكيران. تميزت الجريدة، فضلا عن عمق الطرح في قضايا فكرية، بجرأة افتتاحيات مديرها توفيق بوعشرين. انتهى الأمر بتوقيف مديرها بوعشرين في قضية شخصية ذات طبيعة أخلاقية، وتعرضت الجريدة لفترة عصيبة، وثبت الصحافيون بها ما وسعهم الثبات، رغم توقف أجورهم أو الاقتطاع منها، وتولى سليمان الريسوني رئاسة تحريرها. لم يشذ عن النبرة الحادة ذاتها، في انتقاد السلطة، وانتهى الأمر إلى توقيفه في قضية أخلاقية، هي موضع متابعة قضائية، لم يصدر حكم بشأنها بعدُ، ولم يتم تمتيعه بالمتابعة في حالة سراح. ظل السيف المسلط على الأقلام الحرة هو ما يسميه الأكاديمي المعطي منجيب، بتهمة الجيم أي الجنس والخاء، أي التخابر مع دولة أجنبية. والثابت في الصحافة المغربية أن التجارب الناجحة لا تصمد، وأن أساليب التضييق متعددة، من ضبط سوق الإشهار والتوزيع، فضلا عن التشهير والاختلاق، وأن الأقلام المتميزة ينتهي بها الأمر إلى الانسحاب، أو النفي أو السجن. نقرّ طبعا أن الصحافي ليس مَلاكا، ولا أسمى من القانون، ولا منزها عن الخطأ، ولكن ينبغي أن لا يكون مثلما يردد بعض الظرفاء أدنى من القانون. انفصم العقد الضمني بين السلطة والصحافة في المغرب، والأخطر بين الصحافة والقراء. الصحافة هي بمثابة رادار يتيح ضبط الوجهة وتحديد نقطة التواجد، فهل يمكن للمغرب أن يعيش من دون صحافة حرة؟ والجواب طبعا (لا)، والمؤكد أن وضع الصحافة والصحافيين لا يحتمل الاستمرار فيما هو عليه.