الغرب ليس كتلة واحدة متجانسة، والغرب ليس هو البنتاغون والبيت الأبيض، أو الإليزيه أو 10 داوننغ ستريت، بل هناك غرب آخر مكون من دول مثل الدول الإسكندنافية ذات الماضي الخالي من اغتصاب حقوق الآخرين، والغرب هو كذلك الجمعيات الحقوقية الكبرى مثل أمنستي إنترناشينال أو ترانسبرنسي.
وتاريخيا، اعتاد المثقفون والسياسيون العرب إضفاء طابع الغرب على كل ما ينتمي إلى أوروبا والولايات المتحدة. ويصبغ هذا الغرب بمختلف تلاوين سلبيات الماضي من حروب صليبية واستعمار ودعم للأنظمة الديكتاتورية وشن الحروب ضد الشعوب المقاومة مثلما حدث للعراق، وحرمان شعوب أخرى من حق تقرير المصير مثل حق الفلسطينيين.
وهذه الأطروحة صحيحة للغاية بحكم اصطدام العالم العربي والإسلامي مع الغرب في محطات مختلفة، اصطدام يشمل ما هو ثقافي ويشمل ما هو سياسي-عسكري. ولا توجد دراسات متواصلة من العالم العربي حول الغرب وتطوره، حيث تبقى محدودة العدد، أمام الكم الهائل من الإنتاج الفكري للمفكرين والباحثين الغربيين حول العالم العربي والإسلامي، إلى حد أن معظم الدراسات في التاريخ وعلوم الاجتماع والعلوم السياسية حول العالم العربي تعتمد مراجع غربية أساسا. ونجد العكس، فمن النادر العثور على دراسة غربية، لاسيما في الجامعات الكبرى تعتمد الأبحاث العربية حول الغرب. لقد أنتجت الثقافة العربية والباحثون من أصل عربي في الجامعات الغربية مفكرين قاموا بمحاولة تفكيك الخطاب الغربي حول العالم العربي والإسلامي، وعلى رأسهم إدوارد سعيد بكتابه «الاستشراق» لكن الثقافة العربية لم تسجل بعد تلك القفزة النوعية بإنتاج دراسات حول الغرب من رؤية عربية محضة، وتعالج مواضيع مثل حضور الدين المسيحي في القرارات السياسية، نشوء الفكر الاستعماري الأوروبي، دور الفاتيكان في العالم الغربي والعربي .
نعم، تحكمت ظروف تاريخية معينة في انتشار الاستشراق نتيجة التوسع الاستعماري وظهور الجامعات في الغرب منذ قرون، والنهضة الأوروبية التي سعت إلى معرفة الآخر، وإن كانت كراسي دراسة العالم العربي الإسلامي قد بدأت مع الحروب الصليبية الأولى. وهذه الظروف لم تتوفر في العالم العربي والإسلامي الذي انكمش على نفسه، ابتداء من القرن الثاني عشر الميلادي وتراجع دور العلم لفائدة ثقافة دينية متزمتة ومنغلقة، لكن في الوقت الراهن لم تعد هناك مبررات للتقاعس الفكري العربي في معالجة قضايا الغرب أكاديميا، بحكم تطور الجامعة العربية على الأقل عددا، في انتظار النوعية والكيفية، وبسبب نسبة الباحثين من أصل عربي في الجامعات والمعاهد الاستراتيجية الغربية. والمفارقة هو تقدم الإعلام العربي على البحث الأكاديمي في معالجة الغرب، عبر مقالات وعبر برامج قد يكون أبرزها «من واشنطن» الذي تبثه قناة «الجزيرة» ويعتبر مهما، لأنه يصاغ وفق رؤية عربية للتطورات الأمريكية، على الأقل في الإعداد واختيار المواضيع والأسئلة، أو الأجندة العامة التي تتحكم في البرنامج.
وفي ظل تأخر الثقافة العربية في معالجة الغرب، ثقافيا، نجحت ثلاث ثقافات في إنتاج دراسات حول الغرب وهي، الروسية والصينية وأمريكا اللاتينية. وهذا مرتبط بالنهضة الشاملة، التي تشهدها هذه الثقافات والدول. وتسجل الجامعة الروسية خلال العقدين الأخيرين أبحاثا ومؤلفات كثيرة حول الغرب، الذي تشترك معه في الديانة وتفترق معه في السياسة والتاريخ، وبدأت هذه الدراسات متحررة من قيود الفكر الشيوعي، الذي هيمن على الجامعات إبان حقبة الاتحاد السوفييتي. وبدورها تسجل جامعات أمريكا اللاتينية دراسات مهمة، حول الولايات المتحدة، وحول الدين والثقافة وصنع القرار السياسي والعسكري وتطور المجتمع الأمريكي، وهي مثال يقتدى به في هذا المجال. وقطعت الصين في ظرف وجيز مراحل مدهشة في الدراسات حول الغرب، وأساسا الولايات المتحدة، انطلاقا من رغبتها في زعامة العالم، وبالتالي عليها دراسة المنافس الذي يتربع الآن على هذه الزعامة، أي واشنطن، حيث أصبح الكثير من الجامعات والمعاهد يتوفر على شعب خاصة بالولايات المتحدة، الثقافة والتاريخ والعلوم السياسية.
لقد تطور الغرب، ولم يعد ذلك الغرب الثقافي والسياسي الواحد والأوحد، بل أصبح غربين، غرب يمثل الماضي والحاضر البشع مثل، الفكر السياسي المهيمن في واشنطن ولندن أساسا، الذي قاد العالم إلى حروب مثل، حرب العراق ويحول دون حق الفلسطينيين في إقامة الدولة، ويدعم الأنظمة الديكتاتورية العربية. وهذا هو الغرب المتداول عند الرأي العام العربي والإسلامي، بسبب الاحتكاك العنيف به بشكل مستمر. والغرب الثاني هو ذلك الغرب الإنساني الذي تشكله دول وحركات حقوقية وإنسانية مثل، دول شمال أوروبا كفنلندا والسويد والنرويج، ذات الماضي الخالي تقريبا من شوائب الاستعمار والتورط في العبودية، وهي التي تقف مع الشعوب مثل سياسة السويد تجاه القضية الفلسطينية، وتناهض الحروب وفتحت أبوابها تاريخيا للمعارضين واللاجئين، وإدخال الطابع الإنساني للعلاقات الدولية مثل المساعدات. إنه الغرب الآخر المكون من حركات تدافع عن حقوق الإنسان مثل، أمنستي أنترناشينال التي تندد بالاعتقالات والتعذيب والاغتيالات وترفع دعاوى ضد الديكتاتوريين. إنه الغرب الذي تشكله جمعيات مثل ترانسبرنسي أنترناشينال التي تقاوم ضد الفساد المالي للأنظمة. وهو الغرب الذي يفضله الرأي العام العربي، وترفضه الأنظمة الديكتاتورية العربية. إن العالم العربي أصبح أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى إدوارد سعيد، ولكن في الاتجاه المعاكس، وهو تفكيك الغرب تاريخا وثقافة بمعزل عن علاقته التاريخية بالعالم العربي.