صرح الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون في حوار أجرته معه قناة «فرانس 24» منذ أقل من أسبوعين، بأنه ينتظر مبادرة من طرف المغرب لتجاوز الأزمة الحالية، وفي الحوار نفسه وجّه اتهاما خطيرا للمغرب بالتورط في مؤامرة ضد بلاده. تصريح يشير إلى استمرار التوتر وتفاقمه، في وقت كان المنطق يستوجب الرهان على الحوار لمواجهة إقليمية لفيروس كورونا.
كان حوار الرئيس الجزائري منتظرا، لاسيما مع وسيلة إعلام أجنبية، حيث تكون الأسئلة واقعية ومحرجة أحيانا، بعيدة عن تلك الحوارات المخدومة والمعدة سلفا التي تشهدها دول لم تقطع شوطا مهما في حرية التعبير والتنظيم السياسي.
وكشف في تصريحه عن نقطتين أساسيتين، وبقدر ما تغذي واحدة الأمل في مصالحة بين الطرفين، بقدر ما تفاقم الأخرى التوتر، وتوحي باستمرار وضع أشبه بالكوريتين، الشمالية والجنوبية، ولكن في شمال افريقيا.
لقد صرح الرئيس الجزائري بانتظار الجزائر مبادرة من طرف المغرب لإصلاح العلاقات الثنائية، ومن جهة أخرى اتهم أطرافا مغربية بمعاداة بلاده، والتنسيق لضرب استقرارها، في إشارة الى التنسيق مع فرنسا. وهو بهذا يكشف عن رؤية مختلف المؤسسات الجزائرية إلى الجار الغربي، المغرب. كما يجعل كل تأويل وتكهن لاستخلاص بعض الأمل والإيجابيات للتصريحات، للحلم بتحقيق المصالحة بين البلدين، عملية صعبة للغاية. وفي الوقت الراهن وعلى المدى المتوسط، بحكم أن كل من يصل إلى السلطة في الجانبين ملكية، أو جمهورية يستمر على الأقل، ولا يغير من رؤيته نهائيا، مهما كانت الظروف والتطورات التي تحدث.
تبرز التطورات خلال الخمسين سنة الأخيرة، مدى العداء المترسخ في العاصمتين الرباط والجزائر، اتجاه الآخر، حتى أصبح هذا العداء من ثوابت السلطة والإدارة لدى سلطات البلدين. وتحاولان تحويله إلى الثوابت الوطنية في وجدان الشعبين. والواقع أنهما بدآ ينجحان في هذا المسعى. لقد أصبح المواطن المغربي يرى في الجزائري ذلك الشخص المعادي لوحدته، والمعرقل لتنميته، وأصبح الجزائري يرى في المغربي ذلك العنصر الذي يتآمر على بلده، ويمنعه من الاستقرار التام.
وعمليا، أصبح مفهوم «جار السوء» المظهر البارز للعلاقات، والعنصر الذي يحفر مكانته بقوة في مخيال البلدين. تاريخيا، كان العدو في مخيال البلدين هو «النصراني» القابع وراء شمال ضفة البحر الأبيض المتوسط، وهو الذي يختلف ثقافيا ودينيا ولغويا واجتماعيا، وأصبح الآن العدو هو «جار السوء» الذي يشترك في اللغة بشقيها العربية والأمازيغية، والدين والتاريخ والأعراف، والكثير من المظاهرات والعناصر الأخرى، ولعل المثير للأسف الشديد هو دور النخبة في البلدين، في تأجيج هذا التوجه، بل لعب دور الوسيط المراهن على المصالحة.
ويحدث هذا في وقت لم يحتل أي بلد آخر، باستثناء عمليات التوسع في الماضي التي كانت فيها إمبراطوريات، شهدتها المنطقة، تحاول جمع شمل ساكنة شمال افريقيا تحت راية الإسلام، لمواجهة ذلك «الصليبي» بل الذي حدث هو توحد الشعبين لمواجهة المستعمر الفرنسي والإسباني، خلال النصف الأول من القرن الماضي. وما زال بعض المشاركين في تلك الفترة المشرفة، أحياء شاهدين على روح مقاومة مشتركة نجحت في التصدي للمستعمر وطرده، وانهزمت مع عناد «أصحاب الدار».
سيكون جميلا، لو أخضعنا حكام البلدين لدرس في التاريخ، وتقديم أمثلة من شمال الضفة الشمالية للمتوسط، حتى يستوعبا كيفية تجاوز الأزمات النفسية، فخلال النصف الأول من القرن العشرين، وقعت حربان عالميتان، شكلت ألمانيا وفرنسا وقودها الرئيسي، وخلّفت ملايين القتلى في صفوف شعبي البلدين. ومنذ الخمسينيات، نجح البلدان في بناء الاتحاد الأوروبي، ونسج علاقات بشرية بين مختلف مؤسساتهما من بلديات وجامعات وجيش ودبلوماسية، وتركا ماضي الحروب المقيت وراءهما، وها هما يتطلعان إلى المستقبل، لصنع عالم متعدد الأقطاب. وبينما يحدث هذا بين ألمانيا وفرنسا من خلال لقاءات مستمرة، ومن دون انقطاع، لم تستقبل الرباط أي مسؤول جزائري منذ سنوات، والأمر نفسه مع الجزائر، من دون الحديث عن قمة ثنائية على مستوى قيادة البلدين أو رئاسة الحكومتين. لقد أخلفت «قيادة البلدين» في المغرب والجزائر، موعدها مع التاريخ في مناسبات متعددة للخروج من مأزق التوتر الأبدي، والعمل على الارتقاء بالعلاقات بما يخدم الشعبين. لقد شكّل الوباء العالمي كورونا فرصة للبلدين للعمل من أجل التكامل، لاسيما وأن الوضع العالمي يسمح بذلك. فمن جهة، بدأ تشكيل خريطة جيوسياسية جديدة متعددة الأقطاب، تتطلب الاصطفاف من جديد، ومن جهة أخرى الوعي بالتكامل الإقليمي بين الدول في الكثير من جهات العالم، بعدما اكتشفت أمام الخصاص، الذي فرضه الوباء نتيجة عدم السفر، وتراجع الشحن الدولي، أن الجار يمتلك ما يرغب فيه الجار الآخر، والعكس صحيح. ويمتلك البلدان من المقومات الشيء الكثير من موارد طبيعية وعنصر بشري مؤهل لتحقيق تكامل يخلق دينامية ثنائية بينهما، وإقليمية قوية في شمال افريقيا، ويمتد إلى القارة السمراء، ويكون مخاطبا للعملاق الأوروبي. وعلى الرغم من التوتر، يستمر النفاق بين قيادتي البلدين، ولاسيما في الحديث عن المصير المشترك والأخوة. والمفارقة التاريخية أن ما يجسد المصير المشترك لمأساة المغرب والجزائر هو عندما يتواجد شاب مغربي وجزائري على متن قارب واحد من قوارب الهجرة السرية، ينطلق من الضفة الجنوبية في اتجاه شواطئ الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، بحثا عن مستقبل أفضل، وهربا من الفساد والقمع الذي تشترك فيه الأنظمة الحاكمة في البلدين وبامتياز كبير.