القضاء الأوروبي يدق أبواب الأنظمة الملكية لمحاكمة أفرادها والعربي في عطلة أبدية

تشهد الدول الأوروبية خلال السنوات الأخيرة محاكمة بعض أفراد العائلات الملكية الحاكمة وبلغت ذروتها مع المحاكمة المرتقبة للملك الأب خوان كارلوس بسبب ملفات فساد مرتبطة بالعربية السعودية. وهذه المحاكمات تشير إلى تطور في الممارسة الديمقراطية في هذه الدول، وتحاول الأنظمة الملكية التكيف مع المطالب لتفادي نهايتها في ظل قوة المطالب بالجمهورية.

وتوجد في أوروبا أغلبية الأنظمة الملكية في العالم، من شمالها في السويد والنرويج إلى جنوبها في إسبانيا مرورا بهولندا وبلجيكا والدنمرك وبريطانيا وإمارات صغيرة مثل لكسمبورغ وموناكو. وهي أنظمة ملكية تختلف في التقاليد والانفتاح، فهناك فرق بين ملكية متشبثة بالتقاليد القديمة على الأقل في بروتوكولها وهي البريطانية والإسبانية وملكية منفتحة مثل السويد أو الدنمارك.

تقليص الامتيازات

وفي ظل التطور السياسي وخاصة ميل المواطنين الأوروبيين إلى النظام الجمهوري والتخلي عن نظام يعتبرونه وريثا لحقب متخلفة مثل النبلاء والفيودالية، تحاول الملكيات التأقلم والتكيف. ويأتي هذا عبر بدء التخلي عن البروتوكول مثل اختلاط الملوك وأبنائهم مع عامة الشعب سواء في الأسواق بين الحين والآخر أو الدراسة، ثم الزواج من عامة الناس. في هذا الصدد، تزوج ملك إسبانيا الحالي ليتيسيا، وهي صحافية مطلقة كانت تعمل في القناة الأولى مقدمة للأخبار، وتزوج الأمير هاري من ميغان وملوك وأمراء آخرون من نساء أو رجال لا ينتمون إلى العائلات الملكية، عكس ما كان يحدث في الماضي عندما كان الزواج محصورا في أفراد العائلات الملكية أو النبلاء أو الطبقة الأرستقراطية العليا.

وفي خطوة أخرى، قامت الكثير من الملكيات بالخضوع للضرائب مثل باقي المواطنين والتقليص من ميزانية التسيير بشكل ملفت، إذ تبقى دون عشرة ملايين يورو في حالة إسبانيا وبلجيكا والسويد، وأعلاها لا تتجاوز 50 مليون يورو في حالة بريطانيا. وتعد ميزانيات دون ميزانيات الأنظمة الملكية العربية، إذ تتجاوز المغربية 250 مليون يورو، وتعد بعشرات المليارات في حالة السعودية علاوة على التحكم في خيرات البلاد.

البداية مع الأميرة كريستينا

لكن التطور الحقيقي الذي تشهده حاليا الأنظمة الملكية هو خضوعها للقانون والمحاكمات بعدما كانت في الماضي تعتبر من التابوهات، ويجري التستر على المخالفات التي تصل إلى مستوى الجرائم. وعملت المؤسسات مثل العسكرية والاستخباراتية على طمس جرائم الأنظمة الملكية في الحرب الباردة لأن هذه الأنظمة كانت عامل استقرار وضامنة له أمام التقلبات السياسية وخاصة التخوف من وصول أحزاب يسارية إلى الحكم. وتحاول الأنظمة الملكية الاستفادة من الحصانة التي يوفرها الدستور لها مثل اعتبار عدم مسؤولية الملك في القرارات السياسية بسبب تولي الحكومة القرارات والاستشارة فقط مع الملك أو الملكة، ولهذا توجد مطالب بمحاكمة رئيس الحكومة البريطانية السابق توني بلير عن مشاركته في الحرب ضد العراق سنة 2003 ولا تمتد المطالب إلى الملكة إليزابيث الثانية رغم مصادقتها على القرار. لكن عندما يتعلق الأمر بملفات مثل الاعتداءات الجنسية والفساد المالي، هنا تضعف الحصانة الخاصة بالقرارات السياسية وتتقوى فرضية المحاكمة.

ويمكن اعتبار السنوات الأخيرة بمثابة المنعطف، لأنها شهدت محاكمات لأفراد من العائلة الملكية، والبداية مع الأميرة كيرستينا ابنة خوان كارلوس الملك الأب وشقيقة الملك فيليبي السادس، حيث قرر القضاء الإسباني يوم الجمعة 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2014 توجيه اتهام إلى الأميرة بالتورط في الاستيلاء على أموال عمومية رفة زوجها إنياكي أوندنغرين، وجرت المحاكمة لاحقا وانتهت بتبرئتها وإدانة زوجها بالسجن. وكانت كريستينا أول أميرة أوروبية تخضع للاستنطاق ثم المحاكمة بعد جدل سياسي وقانوني حول أهلية الدستور الحالي استنطاق الأمراء، إذ تبين في آخر المطاف عدم حماية الدستور للأمراء بل فقط لشخص الملك الذي تتحمل الحكومة مسؤولية القرارات السياسية.

ويعتبر المنعطف الثاني هو ما جرى في بلجيكا طيلة سنوات حتى كانون الثاني/يناير الماضي، عندما أجبر قضاء هذا البلد الأوروبي الملك الأب ألبير الثاني على تقديم حمضه النووي لإجراء التحاليل عليه لمعرفة أبوته من عدمها لمعرفة هل دليفن بويل ابنته أم لا، وتبين في آخر المطاف أنها ابنته. وكتبت الصحافة البلجيكية أنه لو كان قد حصل في السبعينات والثمانينات لما تحرك القضاء ولكن الأمور تتغير.

القضاء الأجنبي وراء المحاكمات

وفي ملكية أخرى، وهي البريطانية المعروفة بعدد من الفضائح السياسية والمالية، لم ينجح القضاء البريطاني رغم سمعته الكبيرة في محاكمة أي فرد من العائلة رغم الشبهات التي يرددها الكثير من الباحثين حول تورط فرد من هذه العائلة في مقتل الأميرة ديانا. وتأتي محاولة استنطاق أول عضو من العائلة عن طريق القضاء الأجنبي، ويتعلق الأمر بالقضاء الأمريكي الذي يرغب في سماع الأمير أندرو ابن الملكة إليزابيث وعلاقته بالمليونير المنتحر إبستين الذي يعتقد أنه كان يدير الدعار الراقية للقاصرين لصالح عدد من النافذين والأغنياء ومنهم أندرو. وتفيد جريدة “ذي صن” مؤخرا أن الأمير أمامه خيارين، التصريح الطوعي أمام القضاء الأمريكي أو التصريح أمام النيابة العامة في بريطانيا. ويحاول الأمير حتى الآن المراوغة عبر الدفاع عن نفسه أمام الصحافة. وإذا استمر الوضع على ما عليه، لا يمكن استبعاد إصدار القضاء الأمريكي مذكرة اعتقال دولي في حقه.

ويقف القضاء الأجنبي وراء تحريك ملف محاكمة الملك الأب في إسبانيا بينما تقاعس القضاء الإسباني في البدء. فقد بدأ القضاء السويسري التحقيق في تلقي الملك خوان كارلوس سنة 2014 مبالغ مالية تتراوح ما بين الثمانين والمئة مليون دولار من طرف العربية السعودية، وذلك مقابل وساطته في حصول شركات إسبانية على صفقة ضخمة لإنشاء القطار السريع بين مكة والمدينة، وهي أكبر صفقة في تاريخ الشركات الإسبانية بما يفوق ستة مليارات يورو. وعمل الملك على تبييض الأموال ما بين سويسرا وبنما. وعندما نجح القضاء السويسري في رصد خيوط عملية التهريب، تحرك القضاء الإسباني لمحاكمة الملك خوان كارلوس لجعل الملف وطنيا.

وهكذا، قررت النيابة العامة الإسبانية يوم 8 حزيران/يونيو 2020 إحالة الملك الأب على التحقيق والمحاكمة. ويشمل الملف فقط تبييض الأموال سنة 2014 بينما تطالب الأحزاب ومنها بوديموس والحزب القومي الباسكي بضرورة التحقيق معه حول ملفات كثيرة من الوساطة في صفقات ومنها الأسلحة. وتعد محاكمة خوان كارلوس بمثابة إنقاذ للملكية الإسبانية في ظل ارتفاع مطالب جزء من الطبقة السياسية بضرورة إرساء النظام الجمهوري.

في غضون ذلك، وبعد زمن طويل، بدأ أفراد العائلات الملكية يخضعون للتحقيق القضائي والمحاكمة، وتلعب عوامل كثيرة في هذا الشأن لتعزيز هذا التوجه ومنها:

في المقام الأول، ظهور طبقة سياسية جديدة في الدول الأوروبية ترغب في إلغاء الامتيازات التي يتمتع بها أفراد العائلة الملكية ومنها الحصانة في مواجهة القضاء. وكتكملة، ظهور رأي عام قوي في الدول الأوروبية يعتقد في نفس الأطروحة، ويطالب بضرورة إلغاء كل الامتيازات للعائلة الملكية.

في المقام الثاني، قيام قضاء دول أجنبية بالتحقيق في ملفات تورط فيها أعضاء العائلة الملكية مثل حالة الأمير البريطاني أندرو والملك الأب في إسبانيا خوان كارلوس، حيث ستعمل الدول على الالتفاف وجعل هذه الملفات تخضع لتحقيق القضاء وطنيا بدل التحقيق الدولي.

وبينما تجري هذه التطورات، يبقى القضاء العربي في عطلة حيث يعد ملفات الملوك والأمراء العرب من الطابوهات الكبرى.

Sign In

Reset Your Password