من “انتصار الموت” لبروغيل إلى “الصرخة” لمونك وكمامة الجداريات: عندما يؤرخ الفن التشكيلي للأوبئة

انتصار الموت لبيتري بروغيل

الفن يؤرخ للأحداث الكبرى، أكانت فرحا أم حزنا، بتعابير إبداعية مختلفة، وهي ظاهرة ملفتة في الغرب. ويحرص فنانون كبار على تأريخ أحداث عاشوها أو قرأوا عنها، وهذه الظاهرة ضعيفة في مناطق وحضارات أخرى ومنها عالمنا العربي بسبب غياب تقاليد فنية عريقة. ووجدت الكوارث الطبيعية والأوبئة التي عانت منها البشرية في الفنان التشكيلي والروائي والسينمائي حليفا يعكس بريشته أو مداده أو الكاميرا ذلك المبدع الذي يحاول القبض على تفاصيل لحظات الرعب التي تحبس أنفاس البشرية في أوقات دقيقة، وهكذا يحتفظ الفن بها في ذاكرته للأجيال اللاحقة، وأحيانا نتماهى مع الجانب الإبداعي للعمل الفني وننسى هول عنف الحدث والجروح التي تركت في فترة ما واندملت بفضل النسيان واللامبالاة أكثر من مرور الزمن. وعندما نغوص في العمل الفني عبر القراءة النقدية وشروط وظروف إنجازه، ينعش ذاكرتنا الجماعية ويحافظ عليها من التلف بإعادة شبح تلك اللحظات العصيبة التي أرخ لها.

عندما يقف المتلقي، أكان عاديا من الجمهور أو ناقدا، أمام لوحة الغرنيكا لبابلو بيكاسو، ينبهر بحجم اللوحة وتقنيات الرسم وسمعة وشهرة مبدعها الذي يعرفه المختص الفني والإنسان العادي. وينسى المتلقي في غالب الأحيان أنها لحظة القبض على صراخ وطلب نجدة والهروب من ملاك الموت وقتلى من شتى الأعمار عندما انهمرت قنابل طائرات النازية يوم 26 نيسان/أبريل 1937 على البلدة الجميلة الواقعة في شمال اسبانيا بإقليم الباسك وحولتها إلى جهنم مصغرة.

وتغليب الجانب الجمالي في العمل الفني في لوحات الكارثة أو الجائحة يحدث حتى إبان لحظة الألم والمعاناة وسيادة الرعب، يرغب المبدع في تحدي الموت بإبراز قيم وأحلام وتأملات فلسفية، وهذا قد يكون وراء السر في اعتماد الفنانين القدامى قوة الضوء في اللوحة بدل سيطرة القتامة.

فقد تحدى الروائي الإيطالي جيوفاني بوكاشيو الطاعون الذي ضرب أوروبا سنة 1348 وانتزع من رحم معاناة البشرية تجربة أو حكايات عشرة أشخاص، سبع نساء وثلاثة رجال يختلون بأنفسهم في ضيعة في ريف فلورنسا فيما يشبه الحجر الصحي الذي نعيشه حاليا، ليتحدثوا عن الحب والحياة والموت والقيم الإنسانية، وكانت روايته الكلاسيكية “دي كاميرون” سنة 1353 والتي تزامنت والطاعون الأكبر.

وكما حدث مع “الكوميديا الإلهية” لدانتي التي تحولت إلى مصدر إلهام للعديد من الفنانين التشكيليين الذين سيبدعون بعض فصولها الشعرية تشكيلا، سيحدث مع “دي كاميرون”. تلك الحكايات وشهرتها وسط العامة والمثقفين دفعت بالفنانين التشكيليين حين ذاك ولاحقا إلى الرغبة في تصوير مشاهد الرعب التي عاشتها الإنسانية، وكان رعبا مضاعفا، رعب اللحظة المعاشة ورعب العقاب الرباني الذي كانت تروج له الكنيسة. وأثمرت التجربة عن لوحات صاغت في قالب فني رائع الرؤية الفلسفية العميقة للحياة والموت، الأمل والحزن والحب والجنون. فقد كانت الحقبة الممتدة ما بين القرن الرابع عشر وحتى بداية السادس عشر حقبة الموت من أوبئة ومجاعات، وقد جسد فنانون هذه الانشغالات الوجودية، ولعل أبرزهم ألبر دورير أحد رواد النهضة الفنية الألمانية الذي أنجز في أواخر القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر رسومات “القيامة” وجسد مصادر الرعب التي تعاني منها البشرية في اللوحة الشهيرة بالأبيض والأسود وتبرز فرسانا يمثلون المجاعة والحروب والأوبئة ومنها الطاعون.

الفنان بيتر بروغيل في منتصف القرن السادس عشر أنجز وبعين بانورامية هواجس الموت في اللوحة الشهيرة “انتصار الموت” إذ يقوم جيش من الهياكل العظمية باصطياد الناس. ووسط مشاهد الدمار الهائلة، رسم الفنان في أسفل اللوحة عاشقا يغني لمحبوبته، فهيمنة الموت تقابلها استمرار الحياة كنقطة ضوء ضعيفة وسط ظلام دامس لتبقي على شعلة الأملوإخضاع اللوحة للنقد بالمقاييس الحالية، سيدفعنا إلى تصنيفها ضمن اللوحات السوريالية باستحقاق رغم ظهور اكتساب السوريالية صفة المدرسة أو التيار الفني في القرن العشرين وبالخصوص مع سالفادور دالي.

وبالأسلوب الفني نفسه، نجد لوحة أخرى من إبداع سالفادور روسا تعود لسنة 1657 باسم “هشاشة الإنسان” تحكي فنيا الوباء الذي ضرب إيطاليا وبالأخص مدينة نابولي. ولجأ الفنان إلى أقصى تعبير لقساوة الموت وهشاشة وبؤس الحياة والحياة العاطفية والذهنية القاسية، رسم طفلا حديث الولادة يوقع عقد الموت مع ملاك الموت المجسد في هيكل عظمي. وكان الفنان قد نجى من الطاعون لكنه فقد زوجته وأشقاءه وأبناءه، تجربة مريرة بصمها في إبداعاته الفنية.

وانخرط كبار الفنانين في القرون الماضية في التعاطي الفني مع الأوبئة، فقد عانوا منها وعكسوا أحاسيسهم في لوحات خالدة. وتاريخ الفن يطالعنا بلوحات مثل لوحة تريزيانو الشهيرة باسم “الرأفة” وقبض الهولندي رامبارانت في أحد أشهر لوحات تاريخ الفن التشكيلي على الرؤية الإنسانية التي تستسلم للقدر في لوحة “هندريكس ستوفيل” حيث رسم محبوبته التي ستموت بالطاعون. وكان الإسباني فرانسيسكو غويا يرسم مظاهر الحياة الفرحة من قصور النبلاء وغناء ومرح، وبعدما أصيب بنكسة صحية سنة 1797 تغيرت رؤيته للحياة، فقد أضحت رسوماته سوداوية وكئيبة، وفضل تقنية الحفر وغلبة الأسلوب القتامي للتعبير عن الآلام، ومن أبرز أعماله الفنية “مجمع المصابين” الذي يقدم مستشفيات مليئة بمصابين إبان انتشار الوباء في تلك الحقبة.

وتبقى اللوحة الفنية الأكثر تعبيرا عن أحزان الأوبئة منذ القرن التاسع عشر هي للرسام النرويجي إدفارت مونك المعنونة بـ “الصراخ” وهي من أيقونات الثقافة الفنية في عهدنا الحالي. وقليلون يعرفون أنها تعكس معاناة الفنان الذي فقد أفرادا من عائلته بمرض كان يعد وباء رافق البشرية منذ عهود سحيقة حتى منتصف القرن العشرين، داء السل. وعكس الفنان من خلال كثافة الألوان وتشويه الواقع بتهميش صلابة الخط للتعبير عن عواطفه المضطربة جراء الوباء، فنحن أمام ذروة المدرسة التعبيرية، ويشترك كثيرا مع لوحة “الهشاشة الإنسانية” في الموضوع والرؤية الفلسفية. والغرابة هو عودة الفنان إلى توقيع لوحة أخرى يظهر فيها يستريح بعدما تجاوز مرض الأنفلونزا الإسبانية التي حصدت ما يفوق 50 مليونا ما بين 1918-1920 لكن هذه المرة اللوحة لم تكن كئيبة وحزينة بل تصدح بالحياة وإن كان بشكل محتشم.

وإذا كان لكل مرحلة يضرب فيها الوباء لوحة تشكيلة تؤرخ للحدث، فشبكة الإنترنت ومواقع الصحف تطالعنا بمئات اللوحات التي أبدعها فنانون من كل الدول والثقافات حول فيروس كورونا. ويصادف الوباء زمنا تمتلك فيه البشرية مختلف أدوات التعبير من الرسم والتصوير إلى برامج الكمبيوتر المختصة بتقنيات الرتوشات على الأعمال الفنية أو الإبداع الرقمي المباشر عبر برامج مثل فوتوشوب، وبعضها طريف مثل موناليزا بالكمامة. واللوحة التي تلفت انتباه الباحث في الأعمال المعبرة عن كوفيد-19 تلك التي رسمها مواطن يهوى الرسم وهو بنيتو سانتيش باريا، وتظهر عاملا في قطاع الصحة، قد يكون طبيبا أو ممرضا وهو يحمل الكرة الأرضية، تكريما للجيش الأبيض في مواجهة العدو غير المرئي الذي جعل البشرية تعيش في رعب. تختلف تقنية الرسم ونوعية الموضوع من لوحة “انتصار الموت” المشار إليها إلى لوحة سانتيش التي تبرز كيف ينتصر الطبيب على الموت. وتبنت هيئات الأطباء في اسبانيا هذه اللوحة وتعدها تعبيرا عن التضحيات التي قام بها أصحاب البلدة البيضاء، وقد تصبح من كلاسيكيات الفن المعبر عن فيروس كورونا في انتظار إبداعات رسامين كبار. وبدون شك، ستكون الكمامة عنصر الارتكاز الفني في الأعمال المقبلة، ومسبقا تحولت جدران مدن أوروبية وأمريكية إلى معارض للوحات تتضمن رسومات تبرز الكمامة في حياتنا، إنها عروض في الهواء الطلق.

فالحجر الصحي يدفع فناني العالم إلى الإبداع، فقد عاشت بعض المناطق لحظات صعبة مثل بيرغامو في إيطاليا عندما وقفت عشرات سيارات الجيش لنقل الموتى إلى مناطق أخرى بعد أن لم تعد تستوعبهم مقابر المدنية، بدون شك سيظهر فنان على شاكلة سالفادور روسا لتخليد تلك المشاهد فنيا إلى الأبد.

وقد نرى أعمالا خلال الأشهر المقبلة معروضة في قاعات، ولكن هذه المرة ببروتوكول زيارة العرض مخالف للماضي، إنه فيروس كورونا الذي يغير كل مظاهر الحياة بما فيها تقاليد افتتاح العرض الفني التي ستغيب لسنوات وقد تصبح افتراضية عن بعد مثل التعليم عن بعد الذي فرضته الجائحة.

Sign In

Reset Your Password