في ندوة صحافية دخلت التاريخ الأمريكي، قال وزير الدفاع مايك إسبر برفض الجيش طلب الرئيس دونالد ترامب النزول إلى الشارع لمواجهة التظاهرات التي تشهدها البلاد في أعقاب مقتل جورج فلويد على يد شرطة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا. قرار كشف عن قوة المؤسسة العسكرية في التحكم في القرارات الاستراتيجية الكبرى التي تهدد الأمن القومي للبلاد بما فيها التسبب في إقالة الرئيس بطريقة غير مباشرة.
ومنذ الاثنين من الأسبوع الماضي، تعيش الولايات المتحدة أكبر التظاهرات خلال العقود الأخيرة، تعادل أو تجاوزت الأحداث التي اندلعت سنة 1968 غداة اغتيال القس مارتن لوثر كينغ، وهذه المرة الضحية هو مواطن أمريكي من أصول أفريقية لم يكن معروفا، مات تحت ركبة الشرطي وهو يصرخ “لا أستطيع التنفس”. وكعادته، يقدم ترامب نفسه بمثابة المدافع عن الاستقرار ولو بالقوة خاصة بعدما استعاد مقولة مقيتة لدى الرأي العام الأمريكي “عندما تبدأ أعمال النهب نطلق النار” مقولة تعكس تصورا أمنيا مرفوضا ساد في الولايات المتحدة خاصة في الجنوب الشرقي لدى حكام الولايات ومؤسسة الشريف إبان هيمنة التصرفات العنصرية في مواجهة مطالب الأمريكيين السود.
وبعجرفته الاعتيادية بالتلويح بالعنف، هدد ترامب بإنزال الجيش إلى شوارع المدن التي تشهد احتجاجات على مقتل فلويد وعلى استمرار العنصرية في أوساط المؤسسة الأمنية. ووصل الأمر إلى الاستعانة بالشرطة العسكرية لكي يفتح الطريق لنفسه لأخذ صورة أمام كنيسة وهو يحمل الإنجيل بداية الأسبوع الماضي، صورة أثارت الكثير من السخط بسبب توظيف الدين ضد المتظاهرين وبدى رئيس دولة كبرى وكأنه زعيم ديني من الشرق الأوسط.
تمرد المؤسسة العسكرية
ويوم الأربعاء الماضي، ظهر مايك إسبر، وزير الدفاع في ندوة صحافية لم تكن مبرمجة ورد بحزم واضح على ترامب قائلا “الجيش لن ينزل إلى الشوارع، لقد أدى اليمين لحماية الشعب والوطن” وأضاف “يوجد قلق وسط المؤسسة العسكرية جراء ظاهرة العنصرية”. من الصعب قيام إسبر بهذه الخطوة من دون ضغط من الجيش، وهو الذي يعلم بتسرع ترامب في القرارات ومنها احتمال إقالته فورا. وبعد إسبر، تعالت أصوات عسكرية وازنة تؤيد وزير الدفاع ومنها الجنرال جيم ماتيس الذي شغل منصب وزير الدفاع كذلك عندما اتهم الرئيس ترامب بنشر التفرقة وسط الوطن والشعب الأمريكي واستغلال الدستور. وفي موقف ناري آخر في فوراينير بوليسي للجنرال جون آلن الذي ترأس القوات العسكرية الأمريكية في أفغانستان وقوات الحلف الأطلسي، قال “رئاسة ترامب قد تكون نهاية الحلم الأمريكي وتشكل تهديدا للديمقراطية”. وبدوره، قال الأدميرال مايك مولن الذي كان قائد القوات العسكرية الأمريكية “لقد تعامل دونالد ترامب مع المواطنين الأمريكيين كأعداء”. ونشرت الصحافة الأمريكية عشرات التصريحات لقادة عسكريين من مختلف الرتب ضد ترامب. وفي موقف آخر لجنرال سابق تولى منصب مدير مكتب ترامب، وهو جون كيلي اعتبر ما يقوم به ترامب بمثابة بروباغندا نازية. لكن الضربة القاسية الشبيهة بتصريحات وزير الدفاع هي التي صدرت عن قائد القوات العسكرية المشتركة الجنرال مارك ألكسندر ميلي، الذي وجه رسالة إلى القيادة العسكرية في مختلف الولايات مشددا على حق المواطنين في التعبير. وهذه الرسالة تعني عدم تلبية مطالب حكام الولايات إذا طالبوا بتدخل القوات العسكرية.
تصريحات ميلي تعد عصيانا واضحا ضد ترامب الذي يشغل منصب القائد الأعلى للقوات الأمريكية. وباستثناء رد على جيمس ماتيس، التزم ترامب الصمت وبدأ معتدلا في تصريحاته. وأمام سيل الانتقادات التي وجهها قادة عسكريون إلى ترامب، يبقى التساؤل، لماذا هذا التحول الجذري؟ ثم هل الجيش قادر على إقالة الرئيس بطريقة أو أخرى؟
الجيش من مؤيد إلى معارض لترامب
خلال الحملة الانتخابية سنة 2016 التي قادته إلى البيت الأبيض بعد مواجهته للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، حصل دونالد ترامب على دعم قوي من أكثر من 200 من الجنرالات الذين اعتبروه مناسبا للمنصب، ووقعوا رسالة تدعوا الأمريكيين للتصويت عليه. ورأت المؤسسة العسكرية فيه خير مدافع عن التهديدات التي تمس الأمن القومي الأمريكي وتهدد زعامة البلاد للعالم، ويقف عاملان وراء موقف الجنرالات الذي كان في العمق يعبر عن المؤسسة العسكرية وهما:
في المقام الأول، إنهاء السياسة التفضيلية التي منحها الرئيس الأسبق بيل كلينتون للصين، هذه الأخيرة التي رفعت من صادرتها بشكل كبير، واستغلت التبادل التجاري لصالحها لبناء اقتصادها، علاوة على سرقتها أهم الأسرار الصناعية الأمريكية. وتزخر الكتابات العسكرية التي يوقعها عسكريون أمريكيون بهذا الهاجس. وهذا هو الذي يفسر كيف جعل ترامب من مواجهة الصين نقطة برنامجية رئيسية، وبمجرد وصوله إلى البيت الأبيض بدأ بالرفع من الرسومات على صادرات الصين للسوق الأمريكية.
في المقام الثاني، الحد من الهجرة اللاتينية حيث ترى الدراسات العسكرية أن ارتفاع نسبة اللاتينيين وسط الشعب الأمريكي سيخلق توترا مستقبلا، وهو البلد الذي ما زال يعيش التوتر نتيجة التركيبة الإثنية الحالية للبلاد من البيض والسود. وهذا يفسر كذلك لماذا يصر ترامب على تشديد القوانين ضد الهجرة اللاتينية.
وقد نجح الرئيس ترامب نسبيا في محاصرة الصين وفرض الكثير من الرسومات على صادراتها للسوق الأمريكية، ونجح في الحد من الهجرة اللاتينية، لكنه تسبب في مشكل قد يفجر المجتمع الأمريكي هو التعاطي الخاطئ مع القضية الإثنية في الولايات المتحدة وذروتها مع اغتيال جورج فلويد، حيث يهدد بتفرقة الوطن ولم يعد رئيسا يوحد الأمريكيين.
وعليه، يأتي قلق المؤسسة العسكرية من انفجار الأوضاع التي قد تؤدي إلى مواجهات مسلحة وسط البلاد في وقت انتشر السلاح بشكل خطير، ثم في وقت وصل فيه الاستقطاب الإثني مستويات من الحدة شبيهة بما كان عليه الأمر في العقود ما قبل الحرب العالمية الثانية. وإذا وقعت اعتداءات البيض على السود، سيرد السود وستدخل البلاد في منعطف خطير. وقد انتعش المتطرفون البيض بشكل خطير إبان رئاسة دونالد ترامب. ويحذّر الجيش من خطر الأمريكيين البيض الذين يعتقدون في تفوقهم على باقي المواطنين. وقد وصف الجنرال جون آلين في مقال له في مجلة “ذي أتلنتيك” شباط/فبراير الماضي بخطر الإرهاب الشبيه بالجماعات المتطرفة التي يقاتل ضدها الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط. وعالجت لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي هذه القضية الشائكة خلال شهر كانون الثاني/يناير الماضي، واعتبرتها بالخطر المحدق بالأمن القومي للبلاد.
من جهة أخرى، سيطر قلق على الدولة العميقة في الولايات المتحدة “الإستبلشمنت” والمؤسسة العسكرية، هي ترى كيف تدهورت صورة البلاد نتيجة سوء التسيير في مواجهة فيروس كورونا، بينما نجحت الصين، المنافس الذي يهدد عرش واشنطن في العالم، في احتواء هذا المرض. وكيف تسبب فيروس كورونا في شرخ جديد بين الأغنياء والفقراء وبين البيض والسود، في حين بقيت الصين متماسكة.
ويعيش البنتاغون أزمة بسبب تراجع قدرته على نشر قوات عسكرية في الخارج. فقد جمد مناورات عسكرية وغير من إيقاع حاملات الطائرات وباقي السفن الحربية خوفا من انتشار فيروس كورونا في صفوف الجيش، لاسيما بعد حادث حاملة الطائرات روزفلت التي جرى سحبها مؤقتا من الإبحار بعد انتشار الفيروس وسط الجنود. وبالتالي، كيف سينشر الجنود في الأراضي الأمريكية وهو الذي يعاني مشاكل في الانتشار الخارجي. هذه النقطة أثارت غضب القادة العسكريين.
هل الجيش قادر على إقالة ترامب؟
على الرغم من حضورها المهيمن في صناعة القرار الاستراتيجي، لم تحظ المؤسسة العسكرية بالدراسات الكافية من طرف المؤسسات المدنية مثل مراكز البحث الاستراتيجي وخاصة الأمريكية. ويكفي رؤية كيف أن نسبة هامة من الموظفين والمشرعين الأمريكيين لهم ماض عسكري بل وشاركوا في الحروب. واستشارت “القدس العربي” مصدرا عليما بالإدارة العسكرية ومدى تأثيرها على الرؤساء بما في ذلك الإقالة، يقول المصدر “غالبية الناس تعرف فقط آليات إقالة الرئيس دستوريا عبر مجلس الشيوخ والنواب مثل المحاولة الأخيرة ضد ترامب والتي سبقتها ضد كلينتون، لكن هناك آلية غير مباشرة وهي في يد المؤسسة العسكرية”. ويضيف مفسرا “الرئيس يمتلك قرار الحرب وقرار الزر النووي، إذا رأت المؤسسة العسكرية أن الرئيس قد يتخذ قرارات خطيرة تهدد الأمن القومي، تعرضه على لجنة من الأطباء النفسيين، ويصدر القرار بأنه لا يمتلك صلاحية اتخاذ القرارات لأسباب نفسية وذهنية، ووقتها يتم الحجر عليه”. ويشير “لا ننسى أن الطب العسكري هو الذي يجري الكشف النفسي والصحي للرئيس في مستشفى ولتر ريد في ميريلاند، ولم يسبق الحجر على أي رئيس، وكانت المرة الأولى التي انتفض فيها قادة الجيش ضد رئيس كان ضد جون كنيدي وانتهت باغتيال غامض لا تعرف ملابساته حتى الآن، ووجه تحذيرا مبطنا سنة 2006 إلى الرئيس جورج بوش الإبن بعدم شن حرب ضد إيران، وقال وقتها سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة جون بولتون (سيصبح مستشار الأمن القومي مع ترامب قبل إقالته) لقد حدث انقلاب ضد الرئيس، أدرك بوش التنبيه وتراجع عن الحرب”. ويستطرد المصدر “والآن ينتفض قادة الجيش ضد ترامب، وإذا استمر الرئيس في أخطائه، لا أحد يستبعد الحجر عليه، لاسيما وأن نسبة هامة من الأمريكيين بل والرأي العام العالمي تشك في قواه العقلية بشكل لم يسبق مع أي رئيس سابق، الرئيس يبقى مواطنا في آخر المطاف يمكن تعويضه بينما الولايات المتحدة وطن سيكون من الصعب إعادة بناءه في حالة الانهيار”.
ولنتأمل، بلع ترامب لسانه مع تحذير المؤسسة العسكرية، ولم يبادر الحزب الجمهوري للدفاع عنه بل انتقده مشرعون من الحزب الجمهوري نفسه مثل ليزا موركوسكي عن ألاسكا التي قالت “انتقادات ماتيس مرحب بها”.