في خضم التطورات الهائلة سياسيا واجتماعيا وسياسيا الناتجة عن وباء “كورونا فيروس” الذي يعصف بالعالم حاليا، ظهرت عدد من الشخصيات على المسرح الدولي من سياسيين وعلماء بأطروحات وتصريحات مختلفة. ومن أبرز هذه الأسماء بيل غيتس أحد أغنى أغنياء العالم الذي ومنذ سنوات وهو ينبه المسؤولين والرأي العام العالمي الى المخاطر التي تشكلها الأوبئة على الإنسانية. وبقيت تحذيراته بدون صدى حقيقي حتى انفجر الوباء، وهذا هو يحذر من وباء آخر قد يكون فتاكا في ظرف أقل من عشرين سنة المقبلة.
بين بهلوانيات ترامب وجرأة راؤول
وعمليا، سيحتفظ تاريخ هذا الوباء بشخصيات تركت بصمات ملموسة في المشهد العام في هذه المرحلة الشائكة والصعبة من تاريخ الإنسانية في القرن الواحد والعشرين، وهي ليست بالضرورة كلها إيجابية ومنطقية. وعلى رأس هذه الشخصيات، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي استهزأ بالفيروس في البدء، واضطر لاحقا الخضوع مرغما لنصائح العلماء. لقد كان ترامب يعقد ندوة صحفية يوميا وتحولت الى ما يشبه المسلسلات التلفزيونية الطويلة، لكن التاريخ سيحتفظ أساسا بتصريحه الذي يصل الى مستوى البهلوانيات التي تجري فقط في أفلام الرسوم المتحركة مثل تساؤله لماذا لا يتم حقن الناس بمواد التعقيم الخاصة بالنظافة. مقترح جعل الرأي العام الدولي يرد بتساؤل آخر وهو: هل يمكن لرئيس أقوى دولة، وهي الدولة التي تضم أعلى نسبة من الفائزين بجوائز نوبل في الطب والكيمياء وتخصصات عملية أخرى، أن يصدر تصريحا غبيا مثل هذا.
والشخصية الثانية التي برزت هي العالم الفرنسي ديدييه راوول مدير المعهد الاستشفائي “ميدتيرياني” في مارسيليا الذي حمل أفكارا ومقترحات واضحة لمعالجة فيروس كورونا من خلال دواء الكلوروكين. وشكل ظاهرة حقيقية بحكم النزاع الذي انفجر بينه وبين الهيئة الطبية الرسمية الفرنسية التي تعمل وفق منهاج كلاسيكي أورثوذكسي تجاوزه نسبيا الزمن علاوة على ارتباط الكثير من أعضاء الهيئة بشركات صنع الأدوية. هذا الباحث الذي رفض الانضمام الى المجلس العلمي الذي يقدم نصائح للرئيس ايمانويل ماكرون، فما كان من الرئيس سوى زيارته في معقله في مارسيليا للإستماع الى آراءه. راؤول يمثل الباحث المتمرد على شركات الأدوية الدولية التي تتاجر بصحة الناس.
بيل غيتس النذير
ووسط بانوراما التصريحات والتصريحات المضادة والاتهامات بين الصين والولايات المتحدة بشأن مسؤولية التسبب في هذا الفيروس، وما يخلفه هذا من اصطفاف ينبئ بحرب باردة جديدة سببها كورونا فيروس أكثر من صراع التموقع في الخريطة الجيوسياسية العالمية، يبرز بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت بأطروحات منطقية.
ويعد بيل غيتس من الشخصيات التي تركت بصماتها واضحة في مسار الإنسانية، فهو مخترع نظام الويندوز الذي يتم استعماله في قرابة 90% من حواسيب العالم، وأعطى قفزة لكل المجالات في العالم ولاسيما المرتبطة بالإنترنت. وبهذا يحتل مرتبة في التاريخ شبيهة بمرتبة مخترع آلة الطباعة غوتنبرغ في القرن الخامس عشر الذي أعطى دفعة للنهضة الأوروبية.
و يعد بيل غيتس ضمن أغنى ثلاثة في العالم، لكنه يبقى حالة فريدة في تاريخ الأغنياء، فقد بنى ثروته من المعرفة المحضة من خلال بيع أنظمة ميكروسوفت التي عادة لا تلمس، عكس باقي الأغنياء الذين يبيعون مواد ملموسة مثل صاحب أمازون جيف بيزوس أو صاحب شركة إندتكس أمانسيو أورتيغا. ويسير الآن في دربه أغنياء المعرفة الرقمية أصحاب شركات فايسبوك وتويتر ضمن أخرى. ووسط كل هؤلاء، يبرز بيل غيتس بطابعه الإنساني رفقة زوجته ميليندا بتأسيسهما للمؤسسة التي تعمل اسميهما وتخصيص عشرات الملايير من الدولارات لشتى الأهداف الإنسانية من محاربة السيدا في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين الى تطوير الأعمال الخيرية مثل تطوير عمل المزارعين في القارة الإفريقية.
لكن اسمه برز بقوة خلال كورونا فيروس، فمباشرة بعد اندلاع الوباء العالمي، بدأ العالم يستعيد التحذيرات التي كان يطلقها غيتس منذ خمس سنوات وأساسا سنة 2015 عندما قال خلال انتشار فيروس إيبولا في إفريقيا “ربما هناك فيروس لا يحس المرء المصاب بتأثيراته وهو يأخذ طائرة أو يتوجه الى متجر كبير، وهذا سيجعل هذا الفيروس ينتشر في العالم بطريقة سريعة“. وأضاف “لمواجه وباء عالمي نحتاج الى ملايين الناس تعمل في البحث، ودور منظمة الصحة العالمية هو تنسيق الجهود لمواجهة الأوبئة. ضعف الاستعداد قد يجعل الوباء المقبل فتاكا أكثر من إيبولا“.
لم يأخذ الكثيرون تصريحات صاحب مايكروسوفت على محمل الجد لأن الدول الغربية اعتقدت أن فيروس إيبولا يقتصر فقط على منطقة معينة من القارة الإفريقية دون سواها. وها هو فيروس كورونا يقتل منذ ظهوره أواسط ديسمبر الماضي الى بداية مايو الجاري 240 ألف، وهو الرقم المعلن عنه رسميا، بينما يسود الاعتقاد في رقم أكبر يتجاوز 400 ألف، بينما إيبولا قتل فقط الأفارقة. ومن باب المقارنة، قتل فيروس كورونا أكثر من 25 ألف في اسبانيا حتى السبت 2 مايو الجاري، بينما أصيبت مواطنة واحدة بإيبولا في هذا البلد الأوروبي. سنة 2013.
عندما حذّر بيل غيتس من خطورة الوباء المقبل، كان يستحضر تجربة وباء إيبولا ويفكر مثل باحث إفريقي يصرخ منبها العالم لخطورة الوباء أكثر من باحث ينتمي الى الغرب أو دول كبرى أخرى مثل الصين وروسيا ذات أجندة مختلفة في مواجهة الأوبئة.
كانت تحذيرات بيل غيتس من وباء قاتل لا تلقى الاستجابة. لم تهتم بها وسائل الإعلام لأنها تصريحات غير مثيرة للقارئ أو المتلقي عموما، ولم تلفت نظر حكومات العالم وخاصة الغربي. وأصبح العالم الآن على ضوء كورونا فيروس يدرك قيمة تصريحاته السابقة بأن بذل مجهود بسيط للتكهن بالأوبئة والاستعداد المسبق لها سيجنب العالم خسائر بشرية واقتصادية ضخمة.
ولا تشكل هذه الرؤية جديدا بل هي منتشرة وسط العلماء الذين يدرسون الفيروسات والبكتريا ولهم إلمام بتاريخ الأوبئة وما تسببت من فتك بالإنسانية. وإذا كان العالم لم ينتبه الى تصريحاته وهو الوجه البارز في العالم، فكيف سيتم الانتباه لتصريحات عالم ولو كان حائزا على نوبل في الطب. ويردد أكثر من باحث “المرة المقبلة يجب أن نتعاقد مع نجم كروي مثل ميسي أو رونالدو ليكون ناطقا باسم المواضيع التي تشغل بال العلماء، فقد تنتبه نصف الكرة الأرضية لتصريحاته وتأخذها على محمل الجد“.
وفي مقال له في مجلة ذي إيكونوميست الأسبوع الماضي كتب بيل غيتس “ينتظر الكثيرون أنه في ظرف أسابيع ستعود الحياة الى ما كانت عليه خلال ديسمبر، مع الأسف لا، البشرية ستنتصر فقط عندما يتم توفير الحقن للجميع بدون استثناء“.
في غضون ذلك، لا يكف بيل غيتس عن التحذير، ويقول “الآن بدأت الناس تدرك خطورة الوضع، لا ننسى أن هناك احتمال قوي بأنه كل عشرين سنة أو أقل، وبسبب الأسفار الكثيرة، يظهر نوع من هذا الفيروس، ولهذا الناس تنتظر من حكوماتها جعل الصحة أولوية“.
بدون شك، بعد تجربة كورونا فيروس سيكون العالم أكثر استعداد لمواجهة الفيروس المقبل. ما حذّر منه غيتس سنة 2015 تحول الى معتقد لن ينساه الجيل الحالي، لأن العالم لم يعش وباء منذ 1918 “الأنفلونزا الإسبانية“، والمثير أن معظم البشرية حاليا لم تكن تعرف وجود هذا الوباء حتى انفجر كورونا فيروس رغم أنه خلف ما بين خمسين مليون ومائة مليون من الوفيات. لتستعد