تزخر الصحافة العربية بالمقالات النقدية حول الفن التشكيلي، وطاغية هي المقالات حول الإبداع التصويري الزيتي والمائي، وكم هي قليلة المقالات حول النحت، بسبب العدد القليل للفنانين من النحاتين في العالم العربي، شأنهم شأن حقول إبداعية أخرى لم تسجل قفزتها النوعية بعد مثل كتاب الخيال العلمي مقارنة مع الرواية الواقعية. ومرد هذا إلى الشروط الصعبة لممارسة النحت مقارنة مع باقي الفنون التشكيلية الأخرى. وهو ما يجعل مدرسة النحت عربيا وقطريا تبدو أنها ما زالت في مرحلتها الجنينية، ولم تكتمل شخصيتها الفنية بعد وتحتاج إلى مراحل للتطور الفني للحديث عن مدارس عربية في النحت مستقبلا.
ورغم هذه الندرة الفنية للنحت في العالم العربي، تبرز أسماء وتفرض أسلوبها واسمها في مواجهة للتيار، ومنها الفنان-النحات المغربي محمد غزولة الذي يحفر اسمه في عالم النحت المغربي والعربي، ويجتهد في إرساء بصمات خاصة به تجعله من رواد هذا الفن ومرجعا ضمن مراجع أخرى لمعرفة تطور النحت العربي.
والمعرض النوعي الأخير “تراكيب فنية معدنية” لهذا الفنان في قاعة “المكي مغارة” في مدينة تطوان في الشمال المغربي، عاصمة الإبداع التشكيلي في المغرب، دال على مستوى الرقي الإبداعي الذي بلغه بعد أكثر من ثلاثين سنة من الممارسة. وأعماله التي عرضها في هذا الميعاد الفني، بأحجام مختلفة ومتنوعة وقاسمها الرقص والموسيقى، هي شهادة حية في هذا الشأن.
تطويع المواد
وإذا كان الفنان يقبض عبر اللون على تفاصيل اللوحة التي يوظفها في خطابه الفني الموجه للمتلقي، ينفرد محمد غزولة بتطويع مرن للمواد التي يعمل عليها من بقايا الحديد والأسلاك والمسامير والدواليب وأجزاء السيارات تساعده في صياغة رؤيته الفنية للموضوع الذي يعمل عليه، جاعلا من القطع المنحوتة لوحات تشكيلية ذات أبعاد ثلاثية ملموسة بعمقها وحجمها قائمة على التجريب الذي يراه غزولة أساس التطور في مجال النحت التركيبي.
منحوتة “عازف الكمان” ذات المقاييس الطبيعية لفنان يعزف على هذه الآلة لموسيقية، توحي للمتلقي عندما يتأملها أنه يسمع ألحانا تعزف خاصة عندما تتزامن زيارة المعرض في وقت تناسب موسيقى كلاسيكية هادئة في قاعة العرض. وإلى جانب هذه القطعة، أخرى لفتاة ترقص الباليه، ويخيل للناظر أنها في حركة رقص مسترسلة في الزمن بفضل لحظة القبض على التفاصيل الدقيقة للحركة أكثر من تفاصيل الجسم. وتظهر قطعة فنية أخرى “عازف الساكسو” وقطعة تجسد المايسترو على طريقة تقنية جياكوميتي. وإذا كانت أعمال جياكوميتي تدل على تفاهة الحياة في القرن العشرين، يحدث العكس في حال أعمال غزولة، فهنا قطعة المايسترو يفيض شاعرية بالهيئة التي اختارها له وكأنه أتى به للتو من قاعة للموسيقى الكلاسيكية إلى قاعة العرض الفني ليتحكم في باقي الشخصيات النحتية المحتلة لفضاء قاعة المعرض التي تبدو كأنها تحولت إلى مسرح يحتضن السيمفونية.
وعرض غزولة ثلاثين قطعة نحتية من عازفين على أدوات مختلفة وراقصين وراقصات في حركات مختلفة ومن ثقافات متنوعة وكأنها الشعوب تنصهر في عمل موسيقي مشترك من أجل الفن والحياة. القيمة الفنية للمعرض مضاعفة، فنحن أمام قطع نحتية رائعة تقدم فن الموسيقى لمجموعة تعزف معزوفة الحياة بتجرد من الإيديولوجيا وبمنسوب عال من القيم الإنسانية الممزوجة بجمالية ذات بعد رمزي قوي.
وعندما تسأل غزولة عن الخطاب الفني لأعماله النحتية، يحيلك على استخلاص ما تعتقده في منحوتاته. وكباقي الفنانين المتحررين من ثقل الايديولوجية يقول إنها متعددة الخطابات ارتباطا برؤية المتلقي وتكوينه الثقافي بل وحتى معتقداته في بعض الأحيان. ويسترسل “مثل باقي الفنانين، أعتقد في خطاب معين وأعتقد في تقنية معينة، وأقول عن أعمالي الفنية بأنها تميل إلى التجريدي أو التجريدي التشخيصي” وتجد ناقدا يقدم رؤية مختلفة والطريف أنه عندما ترى في مواقع في الإنترنت تقييما يختلف عما تعتقده بما في ذلك تعليقات الجمهور الرقمي. وبالتالي يؤمن غزولة بالفكرة السائدة وسط الفنانين وهي اعتقادهم أن إبداعاتهم هي خطابات مفتوحة لا تحتاج إلى شروحات توجيهية من طرف الفنان بل تبقي للمتلقي رؤيته الخاصة وتحديد الخطاب الذي يعتقد أن العمل الفني يقدمه.
الطابع التركيبي
وتبرز الأعمال المعروضة المتناسقة والمتكاملة في مجملها أن غزولة لا ينساق وراء الأشكال التي تتخذها المادة الحديدية خلال النحت، بل يتحكم في حلقات المسلسل الإبداعي، عبر تصور فني مسبق ودقيق نسبيا وعبر تقنية التلحيم والكي والصقل واستعمال الطبقات التركيبية المتناسقة، وهي العملية الأصعب نظرا للطابع التركيبي في القطعة الواحدة بهدف إبراز التفاصيل، وهي مرحلة متقدمة أو عليا يصل إليها النحات عبر المثابرة والممارسة الطويلة. والتفاصيل هنا مختلفة عن المفهوم الكلاسيكي للنحت القديم القائم على الحفر في القطعة الواحدة مما جعله لمدة طويلة نسخة من الواقع، وهو ما دفع بالأديب الفرنسي الكبير بودلير إلى وصف النحت الكلاسيكي بالفن الممل، بل في عمل غزولة التفاصيل تخضع لعمل إبداعي أقرب إلى مفهوم المدرسة الانطباعية التشكيلية والتجريدية لخدمة العمل الفني بعيدا عن “الروتين الفني للنحت الواقعي”.
وبعد سنوات طويلة من العمل الدؤوب، ومنذ تخرجه من مدرسة الفنون الجميلة في تطوان سنة 1988 يكون محمد غزولة قد حقق من خلال هذا المعرض “تراكيب فنية معدنية” القفزة النوعية في أعماله التي يعتقد كل فنان في بلوغها، ونجح في مسعاه ومساره الفني رغم الصعوبات والتحديات سواء الموضوعية أو الذاتية لكنها تتلخص في غياب أو ضعف شروط الممارسة المناسبة لفن النحت. فعكس الفنان التصويري أو الرسام، يحتاج الفنان إلى فضاء واسع للعمل وتوفير الأدوات والآلات وارتفاع تكلفة المواد الخام. ويواجه النحات عقبة أخرى خلال العرض وهي افتقار الكثير من القاعات الفنية لشروط العمل النحتي عكس اللوحات الفنية. ويكفي أن قاعات وبعضها في المغرب لم يسبق لها عرض أعمال النحت، فهي تقصر الفنون التشكيلية على اللوحات فقط. وهناك عقبة أخرى تواجد تطور الفن، وهي غياب نقاد يكتبون عن النحت، فأغلبهم يفضل الكتابة عن اللوحات التشكيلية، وبدون نقد، الذي يلعب دور التوجيه، يصعب تطوير أي حقل فني بل حتى معرفي.
سيمفونية النحت، مجموع القطع الفنية التي عرضها محمد غزولة في قاعة “المكي مغارة” في تطوان، تبوؤه مكانة بين كبار النحاتين في العالم العربي بل وعلى المستوى الدولي، فقطعة عازف الكمان برقيها الجمالي لا تقل إبداعا عن تلك الموقعة من طرف كبار النحاتين ومعروضة في غاليريات مدن عالمية.
لكن الفنان في العالم العربي وخاصة في دول مثل شمال افريقيا يحتاج إلى تأشيرات متعددة لكي ينقل أعماله إلى أوروبا، وهو أمر لا يتأتى للجميع في غياب مؤسسات ثقافية ترعى الفن ومنه النحت وتسهر على توفير شروط الإبداع.