حل المفكر والاقتصادي الفرنسي “طوماس بيكيتي” صاحب الكتاب الشهير ” الرأسمال والإيديولوجيا” بالمغرب، خلال الأسبوع الماضي ، حيث قدم محاضرتين بكل من الرباط والدار البيضاء، وذلك بمبادرة من مؤسسة “عبد الرحيم بوعبيد”، والجريدة الرقمية “ميديا24″.
وأكد بكيتي في محاضرته التي حضرها أعضاء في لجنة النموذج التنموي، أن العالم اليوم أقل مساواة من عالم القرن الماضي، لذلك فإن المجتمعات الآن تتطلع إلى مزيد من المساواة الاجتماعية.
وأوضح بيكيتي أن المغرب يغيب عن أعماله الأكاديمية، بسبب الافتقار إلى البيانات الكافية للتحليل، خاصة فيما يتعلق بالمساواة والنظام الضريبي، لكن بحسبه يمكن للمغرب استخلاص بعض الدروس من عدة دول، خاصة في هذه الفترة المحورية التي يعتكف فيها على تصميم نموذجه التنموي.
وأبرز بكيتي أن التغيير حدث في العديد من الدول الأوروبية بسبب العنف أو الحرب، وكان هذا هو حال فرنسا، مع الثورة والحربين العالميتين الكبيرتين، وهو نفس الأمر الذي حدث أيضا مع ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية. لكن بحسب بكيتي هناك طرق سلمية أخرى للتغيير، وهذا هو حال السويد، لأنها نموذج يبدو الأكثر رمزية بالنسبة لبلد مثل المغرب.
يقول بيكيتي إن السويد التي تعد حاليًا نموذجًا للعدالة الاجتماعية، لم تكن في أوائل القرن التاسع عشر كما هي عليه الآن، حيث كان يسيطر عليها نظام ملكي احتكر مع النخبة التي تدور في فلكه كل الامتيازات، واختارت البلاد الحياد خلال الحربين العالميتين، وتمكنت من تحويل نفسها إلى ملكية ديمقراطية اجتماعية، وذلك بفضل الحركات السياسية والاجتماعية، ومرت عملية التغيير بسلاسة وسلام في هذا البلد، مع العلم أنه في بداية القرن 19، لم يكن هناك أبدا من راهن على المسار الذي خاضته السويد.
وأكد المفكر الفرنسي أنه لا توجد حتمية ثقافية أو حضارية من شأنها أن تبقي مجتمع دولة ما في وضعية عدم مساواة، مشيرا في الوقت نفسه أن التغيير لا يحدث بالضرورة بالعنف.
التطور الاقتصادي والضريبة على الدخل
وأشار بكيتي أنه لا يوجد أي بلد تطور دون أن لا يفرض ضريبة تصاعدية على الدخل، فقد أدخلت جميع الدول الأوروبية والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية في تاريخها و نظامها الضريبي مثل هذه الضريبة، التي مكنت من تمويل التعليم والنظم الصحية والبنية التحتية والحد من عدم المساواة، وبالتالي كانت جزء أساسيا من مسارات التنمية المستدامة في هذه البلدان.
وهذه هي حالة الولايات المتحدة الأمريكية، بحسب بكيتي، فصحيح أنها دولة رأسمالية لكنها طبقت بين الخمسينيات والثمانينيات ضريبة دخل تصاعدية تصل إلى 80 أو حتى 90٪، وفرضتها أيضا على الميراث، مؤكدا أن هذه الضريبة الثقيلة على الدخل والممتلكات لم تمنع البلاد من أن تصبح القوة الاقتصادية الرائدة في العالم، ولم تبطئ من مسار نموها الاقتصادي أبدا، وعلى العكس من ذلك تماما حينما بدأ الرئيس الأمريكي رونالد ريغان إصلاح هذا النظام حينذاك فقط ظهر الضعف.
لا يجزم طوماس بيكيتي بوجود علاقة مباشرة بين الضريبة التصاعدية والنمو ، لكنه يوضح من خلال عدة حالات أن هذه السياسة الضريبية غالباً ما تكون مصحوبة بنمو قوي، والعكس صحيح.
التعليم والتنمية
يؤكد طوماس بيكيتي أن الأداة المالية ضرورية لإعادة توزيع رأس المال والحد من عدم المساواة، لكنها ليست كافية دون العدالة التربوية، وهذا المعطي حسب ذات المفكر أمر حتمي، فلم يتطور أي بلد دون نظام تعليمي فعال ومتكافئ.
وأوضح بيكيتي أن التقدم الذي أحرزته الولايات المتحدة تحقق بفضل نشر وتعميم التعليم منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ولم تتبع أوروبا الخطوة الأمريكية حتى وقت متأخر للغاية، فلم يحصل تىعميم التعليم الابتدائي بأوروبا إلا بعد الحرب العالمية الثانية، مما مكنها من تسريع التحاقها الاقتصادي بأمريكا.
ويشدد بكيتي أنه لا بد من أن يسبق مراحل النمو الاقتصادي، في كل مكان في العالم، توسيع نطاق الوصول إلى التعليم، وهذا هو الحال في الولايات المتحدة وأوروبا وكذلك في اليابان وكوريا الجنوبية والصين، فالبلدان التي ارتفعت فيها ميزانيات التعليم من 0.5٪ من الناتج الداخلي الإجمالي في القرن 19 إلى أكثر من 5٪ اليوم، استطاعت أن تحقق قفزات اقتصادية هائلة.
ويؤكد بيكيتي أن أي نموذج للتنمية لا يضع المساواة التعليمية في صميم أولوياته محكوم عليه بالفشل.
لا تتطور أي دولة من خلال التجارة الحرة
يقول بيكيتي: “التجارة الحرة هي بنية نظرية صنعها المنتصرون في السوق العالمية”، فلم تتطور أي دولة من خلال التجارة الحرة فمعظم الدول الغنية تطورت بفضل نهج سياسة حمائية في بعض القطاعات”، وهو ما يكسر بحسبه أسطورة الرأسمالية مرة أخرى.
ويعطي بكيتي المثال بحالة بريطانيا وكوريا الجنوبية واليابان، ثلاث دول رأسمالية بدأت بحماية صناعتها أولا قبل الانفتاح على التجارة الحرة مع بقية العالم.