شكّل المخطوطات العربيّة المسلوبة، الموجودة في دير الإسكوريال بالقرب من العاصمة الإسبانية مدريد، قصةً مثيرة، وفريدة من نوعها عاشتها هذه المخطوطات العربية النفيسة النادرة العائدة للسّلطان المغربي زيدان السّعدي حتى زَجّ بها القدر بعيدًا عن موطنها الأصلي في دهاليز، وأروقة، ورفوف “دير سان لورينثو” بمكتبة الإسكوريال الفخمة بالديار الإسبانية.
مخطوطات الإسكوريال العربية
مرّت مؤخّرًا ثلاثة قرون ونيّف على تأسيس المكتبة الوطنية بمدريد، ويذكّرنا هذا الحدث بمكتبة عريقة أخرى توجد في ضواحي العاصمة الإسبانية، والتي أسّست هي الأخرى منذ ما يربو على خمسة قرون، أيّ بقرنيْن من الزّمان قبل تأسيس مكتبة مدريد الوطنية، وهي مكتبة “دير الإسكوريال” الشّهيرة التي أنشئت ما بين 1533 – و 1584، وحريّ بنا أن نسلّط الأضواء في هذه المناسبة على محتويات هذه المكتبة الفريدة، وذلك لصلتها الوثقى بتاريخنا وتراثنا وموروثنا الزّاخر في شبه الجزيرة الإيبيرية، ولاحتوائها على ذخائر نادرة لا تقدّر بثمن من الكتب، والمصنّفات، والأسفار، والتآليف والمخطوطات القيّمة الغميسة العربية واللاّتينية، والعائدة لمختلف الملل، والنحل والأعراق، والإثنيات… هذه المخطوطات النفيسة ما فتئت تقبع فيها إلى هذا اليوم، إذ تؤكد مختلف المصادر والمراجع التاريخية التي تتعرّض لموضوع المخطوطات العربية الموجودة في دير الإسكوريال أنّ جزءًا مهمًّا من هذه المخطوطات النادرة يعود في الواقع إلى السّلطان المغربي أحمد المنصور الذهبي السّعدي، الذي اشتهر باقتناء الكتب، وجَمَعَ منها خزانة عظيمة، وسار خلفه ابنُه زيدان على نهجه في الاهتمام بالكتب فزاد في تنمية وتوسيع المكتبة التي كانت عند والده، و عُني بها عناية فائقة حتى ناف عددها على أربعة آلاف مخطوط يبحث في مختلف العلوم والمعارف، إلاّ أنّ هذه المكتبة الفاخرة صادفها سوء الطالع، وواجهها الحظ العاثر، وخبّأ لها القدر مفاجآت مثيرة أغرب من الخيال .
وصول المخطوطات الى دير الإسكوريال
يشير العلاّمة المغربي الرّاحل محمد الفاسي (أوّل عربي يتولّى إدارة منظمة اليونسكو العالمية) في تحقيقه وتقديمه لمخطوط “الإكسير في فكاك الأسير” للسّفير المغربي ابن عثمان المكناسي: “أنّ خزانة الاسكوريال المليئة بالمخطوطات الثمينة يظنّ الكثيرون انها من مخلفات العرب والأمازيغ في اسبانيا، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الإسبانية كانت أحرقت كلّ الكتب العربية أينما وجدت، ولم يبق بعد خروج العرب والأمازيغ منها كتب تستحقّ الذكر، وفي أيّام السّعديين كان لمنصور الذهبي مولعًا باقتناء الكتب، وجمع منها خزانة عظيمة، وسار خلفه ابنه زيدان على سنته في الاهتمام بالكتب فنمّى الخزانة التي كانت عند والده. ولمّا قام عليه أ حد أقاربه واضطرّ للفرار، كان أوّل ما فكّر فيه خزانة كتبه فوضعها في صناديق مُحكمة ووجّهها إلى مدينة آسفي لتشحن في سفينة كانت هناك إلى أحد الفرنسيين لينقلها الى أحد مراسي سوس (بوّابة جنوب المغرب). فلمّا وصلت السفينة انتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله، ولمّا طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة، فتعرّض له في عرض البحر قرصان إسباني تحت إمرة الأميرال فاخاردو، وطارد المركب للاستيلاء على الصناديق، ولا شكّ أنهم كانوا يظنّون أنّها مملوءة بالذهب، واستولوا بالفعل على المركب الفرنسي وأخذوا الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا فيها إلاّ الكتب، فكّروا (من حسن الحظ) أن يقدّموها هديّة إلى ملكهم. ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليبي الثاني، الذي كان منهمكًا في بناء الديّر الفخم للقدّيس لورينثو بالمحل المُسمّى الإسكوريال، وكان قد نذر في حرب مع فرنسا ألجأته لهدم كنيسة تحمل اسم القدّيس المذكور، أنّه إذا انتصر فسيبني له كنيسة أفخم. فلمّا وصلته هذه الكتب أوقفها على هذا الدّير، وهي التي لا تزال إلى اليوم موجودة فيه، ويقصدها العلماء من كل الأقطار للاستفادة من ذخائرها”.
الرحّالة المغاربة ومكتبة الإسكوريال
تشير المستشرقة الإسبانية نييفيس باراديلا ألونسو فى دراسة لها حول هذا الموضوع إلى أنّ “معظم الرحّالة المغاربة الذين زاروا إسبانيا تعّرضوا في كتاباتهم، ومذكّراتهم إلى الأهميّة التي تنطوي عليها الكتب والمخطوطات العربية التي توجد في الإسكوريال ذلك أنّ المتاحف والمكتبات كانت باستمرار أماكن تسترعي اهتمام مختلف هؤلاء الرحّالة الذين زاروا إسبانيا على امتداد العصور، وهذا ما حدث لدير الاسكوريال، حيث كان محطّ اهتمام الأجانب الذين كانوا يتقاطرون على اسبانيا”. وتتعرّض الباحثة لثلاثة سفراء مغاربة زاروا إسبانيا في حقبٍ تاريخيةٍ متفاوتة، حيث زارها الأوّل في القرن السابع عشر، والاثنان الآخران في القرن الثامن عشر، وتشير إلى ان هؤلاء “كانوا جميعاً بمثابة سفراء لبلدانهم في إسبانيا، وقد قدِموا إليها للتفاوض مع العاهليْن الاسبانييْن كارلوس الثاني ثم كارلوس الثالث”. ومن المهام التي اضطلع بها هؤلاء السفراء، التفاوض من أجل إطلاق سراح الأسرى الذين كانوا قابعين في السّجون الإسبانية، والتوقيع على اتفاقيات التعاون وحسن الجوار بين المغرب وإسبانيا، وقضية المطالبة بعدد من المخطوطات المغربية الموجودة في الاسكوريال”.
بدأت مكتبة الاسكوريال بالذات تنمو وتتكاثر، وتزدهر بفضل العناية التي كان يوليها ملك إسبانيا فيليبي الثاني للكتب والمخطوطات، وعمله على تأسيس مكتبات عمومية كبرى على غرار المكتبات الايطالية، حيث طلب من سفرائه جمع واقتناء الكتب والمخطوطات العربية التي كانت تحظى بالعناية الفائقة عنده وعند علمائه، وهكذا أمكن له إثراء خزانة الإسكوريال بهذه التحف والذخائر التاريخية النفيسة.
وتؤكد المستشرقة الاسبانية بدورها الواقعة التاريخية المشهورة التي تعرضت لها مختلف الكتب التاريخية التي تبحث في تاريخ العلاقات الاسبانية المغربية وهي قضية سطو القراصنة الاسبان عام 1612 بالقرب من مدينة سلا المحاذية لمدينة الرّباط على مركب فرنسي كان يحمل المكتبة الخاصة للسلطان المغربي زيدان والتي كانت تتألف من حوالي أربعة آلاف مخطوط، وقد تمّ تحويل هذه الكتب والمخطوطات جميعها إلى مكتبة دير الاسكوريال بأمر من الملك الاسباني فيليبي الثاني”. كما تتعرّض المستعربة الاسبانية إلى حدث خطير وقع عام 1671 عندما شبّ حريق في الجناح العربي من الدير حيث التهمت ألسنة النيران حوالي 2500 مخطوطًا.
السّفراء الغسّاني والغزال والمكناسي
وبعد عشرين سنة من هذا الحادث المؤسف وصل إلى إسبانيا الوزير عبدالوهاب الغسّاني سفير السلطان مولاي إسماعيل خلال حكم العاهل الاسباني كارلوس الثاني (1690-1691)، وفي كتابه “رحلة الوزير في افتكاك الأسير”، يصف هذا السفير الجناح الذي توجد فيه كتب ومخطوطات ابن زيدان بدير الاسكوريال، كما فاوض العاهل الاسباني بشأن إطلاق سراح الأسرى المسلمين، وكذا إرجاع بعض المخطوطات العربية إلى المغرب، واستجاب العاهل الاسباني للمطلب الأول، وماطل في الاستجابة للمطلب الثاني.
والسفير المغربي الثاني هو أحمد بن المهدي الغزال سفير العاهل المغربي محمد بن عبدالله لدى بلاط كارلوس الثالث (1766) صاحب كتاب: “نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد” وتحتل قضية المخطوطات كذلك مكاناً مهماً في رحلة الغزال الذي قام هو الآخر بزيارة الاسكوريال، وسلّم له العاهل الاسباني كارلوس الثالث بعض هذه المخطوطات (300 مخطوط حسب رواية الغزال نفسه).
أمّا السفير المغربي الثالث فهو ا بن عثمان المكناسي سفير المولى محمد بن عبدالله لدى بلاط كارلوس الثالث الذي زار اسبانيا في الفترة المتراوحة بين (1779-1780) وهو صاحب كتاب “الإكسير في فكاك الأسير”، الذي تمثلت مهمته كذلك في افتكاك الأسرى كما يتضح من عنوان كتابه، كما أنّه لم ينس كسابقيْه زيارة دير الاسكوريال، حيث توقف بالخصوص طويلاً عند المخطوطات العربية. وقد وصف الاسكوريال وصفًا دقيقًا وكلَّ ما به من مقابر الملوك الاسبان، وعن ذلك يقول: “فاذا به من عجائب الدنيا في ارتفاع صواريه، وضخامة بنيانه يقف الوصف دونه”. وعن المخطوطات العربية يقول: “إنها في غاية الحفظ ولا يمكن لأحد أن يدخل الى تلك الخزانة كائنا من كان، ومكتوب عليها بخط أعجمي: “أمر البابا أن لا يخرج أحد من هذه الخزانة شيئًا”.
وقد سلّم ملك إسبانيا كارلوس الثالث عددًا من المخطوطات العربية للسفير المغربي، إلاّ أنها لم تكن من مجموعة الاسكوريال، ولم يتعرض السفراء الثلاثة لحادث السطو على خزانة ابن زيدان حتى لا يؤثّر ذلك على مهمّاتهم الدبلوماسية الأخرى التي قدِموا إلى إسبانيا من أجلها.
الورداني والبحث عن الكنز الضائع!
وفى دراسة للباحث التونسي عليّ العريبي تحت عنوان “الرحلة الأندلسية للورداني والبحث عن المجد الضائع”، يشير إلى انّ الورداني شاعر ورحّالة تونسي عاش في أواخر القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين. ولد سنة 1861 في بلدة الوردانيين جهة السّاحل وتوفي سنة 1914، قام هو الآخر بزيارة لمدينة الاسكوريال حيث أقبل على آثار القصور الموجودة بالمدينة فوصف ما بها من نقوش ورسوم، وقد استرعى انتباهه في قصر فيليبي الثاني رسوم جدرانه التي تصوّر حروب دولة اسبانيا سواء مع العرب أو مع الدولة العليّة. ويضيف: “وقد عثرت البعثة المرافقة للورداني على أكثر من ألفي كتاب عربي”. ويعتقد الناس خطأ -.حسب الورداني- “أنّ الكتب العربية الموجودة في هذه المكتبة هي من مخلفات الأندلس، وليس الأمر كذلك فقد أظهر لي التحرّي والتحقيق وكثرة المحاورة والمذاكرة مع أرباب الوقوف والاطلاع انّ الاسبان لما ملكوا الأندلس أحرقوا معظمَ الكتب والمخطوطات العربية، فكانوا كلما تمكنوا من بلاد أحرقوا كتبها إلّا ما بقي عند بعض الأفراد، وأن هذه الكتب هي من كتب زيدان أمير المغرب، كان قد اشتراها من المشرق، وبينما مأموروه قد قدموا بها إذ فاجأتهم سفن إسبانيا الحربية قريبًا من بوغاز سبتة (جبل طارق) فغلبتهم وغصبت الكتب، فهي في التحقيق من حكومة مراكش (يقصد المغرب) لا الأندلس، والذي يدل على صحّة ما ذهبت إليه ما شاهدته مكتوبًا على أغلب الكتب من أنها ملك الأمير زيدان المذكور”. ويلاحظ أنّ الورداني لم يكن يعرف قصّة هذه الكتب الحقيقية كما سبقت الإشارة إليها من قبل، وكما سنرى عند مؤرخ فرنسي تعرّض لنفس الموضوع، وهو جان كايّي، إذ يذكر الورداني أن الكتب اشتراها زيدان من المشرق وسطا عليها الاسبان في مضيق جبل طارق بالقرب من مدينة سبتة وهي في طريقها إليه حيث كان يقيم بمراكش، وإذا كان الأمر كذلك فكيف وضع خاتم زيدان على هذه المخطوطات كما يؤكد الورداني نفسه ذلك؟ ممّا يرجّح صحّة الرّواية الشهيرة التي سبق أن أكدها المرحوم محمد الفاسي والباحثة الاسبانية نييفيس ألونسو، وكذا المؤرخ الفرنسي جان كاييّ وسواهم من الباحثين.
القنصل الفرنسي كَاسْتِلان وخزانة زيدان
وتحت عنوان “كاستلان وخزانة زيدان”، يشير المؤرخ الفرنسي “جان كايِّي” في كتابه “موجز تاريخ المغرب” إلى أنّ جان فيليب كاستلان، وهو من مدينة مرسيليا، كان قنصل فرنسا في المغرب معتمِدًا لدى السلطان المغربي زيدان عام 1610 “الذي قال عنه المؤلف: “كان من أعظم ملوك السعديين بفضل حنكته وصرامته وحبّه للعلم وعطفه على أهله، حيث كان شغوفًا بالأدب، ومولعًا بالكتب فضلاً عن أنه كان يملك خزانة عظيمة ورث معظم كتبها عن والده أحمد المنصور وقد بلغ عدد كتب هذه الخزانة حوالى أربعة آلاف مخطوط”.
ويضيف المؤلف الفرنسي أنّ كثيرًا من هذه التحف النادرة كانت مغطاة بماء الذهب، ومنمّقة بالجواهر النفيسة، وبعضها مكتوب بخطوط جميلة جدًا وذات فنية عالية، ويحكي المؤلف الفرنسي هو الآخر قصة وصول خزانة مولاي زيدان الي الاسكوريال فيقول: “في ربيع 1612وصل زيدان الي مدينة آسفي مع عائلته وقد حمل معه ممتلكاته النفيسة ومنها مكتبته وهو ينوي الالتحاق بمدينة أكادير، وكان بالميناء مركبان الأوّل هولاندي، والثاني فرنسي وهو مركب كاستلان. واكترىَ زيدان المركبيْن فسافرت عائلته في المركب الهولاندي، وسلّم خزانته وبعض ممتلكاته لمركب كاستلان الذي قبل نقل هذه الحمولة الى أكادير مقابل 3000 دوقية. ويصف المؤلف الفرنسي وصفًا دقيقًا كلّ ما حمله هذا المركب من أمتعة السلطان السعدي. وكانت الصناديق التي تحتوي على حاجياته وكتبه قد وضع عليها خاتمه السلطاني. ويشير أنّ المركب كان يسمّى “نُوتردامْ دِي لاِغَارْدْ”. الّا انّ صاحبه كاستلان رفض إنزال حاجيات ومتاع وكتب زيدان قبل تسلم المبلغ المتّفق عليه. وأمام قرب نفاذ الزاد في المركب الفرنسي قرّر كاستلان وطاقمه في ليلة 22 حزيران العودة إلى فرنسا.
تجري الريّاحُ بما لا تشتهي السّفنُ!
ويشير المؤلف الى أن الرّياح جاءت بما لا تشتهيه السفن، إذ عندما كان المركب الفرنسي قبالة مدينة سلا هوجم على حين غرّة من طرف أسطول إسباني كان تحت إمرة الأميرال فاخاردو، وأرغم على الاتجاه إلى مدينة قادس الاسبانية حيث تمّت محاكمة كاستلان وسجنه ثم مات عام 1619. وألحقت خزانة مولاي زيدان بدير الإسكوريال، كما أرسلت بقية متاعه وحاجياته النفيسة الأخرى إلى مدريد .ويشير المؤلف الفرنسي إلى أن زيدان استشاط غضبًا عندما علم بالخبر، واحتجّ بشدّة لدى ملك فرنسا لويس الثالث عشر، وتحمّلت الجالية الفرنسية المقيمة في المغرب في ذلك الوقت عواقب ومغبّة هذا الحدث، فزجّ ببعضهم في السّجون وأرغم آخرون على مغادرة البلاد، وأصبحت العلاقات السياسية والتجارية بين المغرب وفرنسا شبه منعدمة. وقام لويس الثالث عشر بعدّة مساعٍ لدى البلاط الاسباني حتى يسترجع ملك المغرب ممتلكاته وخزانته دون جدوى. ويختم جاك كايّي بحثه الشيّق قائلاً: “وما زالت مكتبة زيدان توجد إلى يومنا هذا في إسبانيا، في نفس المكان الذي كانت توجد فيه من هذا الدّير، وقد عاينها وشاهدها وتصفّحها في عدّة مناسبات العديد من السّفراء والرحّالة، والمؤرخين، والباحثين، والمتخصّصين، والطلبة، وجميع هذه الكتب والمخطوطات يوجد عليها خاتم زيدان”.
محتويات مكتبة الإسكوريال
المكتبة الزيدانية في الإسكوريال كان قد وضع لها على التوالي ثلاث فهارس: الأول: قام به ميشال كازيري (غزيري؟)، السّوري الماروني، في مجلدين بعنوان “المكتبة العربية الاسبانية في الإسكوريال” وظهر المجلد الأوّل سنة 1760م، والثاني سنة 1770. والفهرس الثاني الجديد قام به المستشرق الفرنسي هارتفغ ديرانبورغ وطبع المجلد الاوّل سنة 1884 تحت عنوان: “مخطوطات الإسكوريال العربية”، وفي سنة 1903 صدر الكرّاس الأوّل من المجلد الثاني. وبعد وفاة ديرانبورغ أصدر ليفي بروفنسال الفهرس الثالث وهو بمثابة مجلد جديد لإتمام عمل سابقه، والذي نشر سنة 1928، وكان بعنوان: “قائمة المخطوطات العربية بالإسكوريال”، وأصدرت مؤخّراً المستعربة الاسبانية أورورا كانو كتابًا في ثلاث مجلدات، يضمّ الفهرسة الكاملة لمجموع المخطوطات العربية المتواجدة في خزانة الاسكوريال . وتقول مؤلفة الفهرسة في مقدّمة كتابها “إنّ مكتبة الإسكوريال توفّر للباحث أو القارئ المهتم الكثير من مصادر المعلومات التي هي في بعض الأحيان فريدة من نوعها تشفي غليل هؤلاء الذين يدفعهم حبّ الاستطلاع او تجذبهم قضايا مهمّة وحيوية في مختلف ميادين المعرفة”.
وقد وصف اليفرني مُؤسّس خزانة السعدييّن السلطان أحمد المنصور السعدي بأنه كانت له عناية تامة باقتناء الكتب والتنافس في جمعها من كلّ جهة، فجمع من غرائب الدفاتر ما لم يكن لمن قبله، ولا يتهيأ لمن بعده مثله، وقال الفشتالي اشتملت الخزانة الكريمة العلية الإمامية الشريفة على عدد جمّ من تصانيف أهل العصر في كلّ فنّ حتى في الطبّ والهندسة. وهناك شهادة أخرى للعلامة المقرّي الذي، قدر عدد كتب هذه الخزانة بـمئة ألف مؤلف. ويؤكّد المؤرخون أن مردّ هذا التطور الهائل في مكتبات وخزائن السّعديين يعود إلى أنها استفادت من العلاقات الودية التي كانت تربط الدولة بالمشرق والغرب. فتقاطرت عليها هدايا الكتب من كلّ مكان. حتى أنّ بعض أكابر المسيحييّن الغربيين قدّم للمنصور مصنفًا طبّيًا مكتوبًا بلغة أجنبية يرجح أنها اللاّتينية. وكان السلطان السعدي يوفد البعثات للقاهرة، والأستانة قصد شراء الكتب واستنساخها، وكانت هذه الخزانة مفتوحة في وجه الباحثين وطلاّب العلم، ويؤكّد القائمون على هذه المكتبة الفريدة من نوعها أن المخطوطات العربية والإغريقية الموجودة بها تعتبر من أحسن وأجمل المخطوطات في أوروبّا، وتضمّ هذه المكتبة الآن حوالي 45000 كتابًا مطبوعًا تعود للقرنيْن الخامس عشر والسادس عشر، وما يزيد على 5000 مخطوطًا تتوزّع حسب أهميتها من حيث مضامينها وعددها على اللغات التالية: تأتى في المرتبة الأولى العربية (1700) مخطوط، واللاّتينية (1400)، والقشتالية (800) والإغريقية (600)، والايطالية (80)، والعبرية (حوالى 70)، والكتلانية والبلنسية (50)، والفرنسية (30)، والصينية (بضع مخطوطات)، والفارسية (20)، والبرتغالية (15)، والتركية (12)، والأرمينية (2)، والألمانية (بضع مخطوطات)، ولغة نوالط المكسيكية القديمة (مخطوط واحد).
وتبلغ مساحة خزانة الإسكوريال 54 متر طولاً مقابل 9 أمتار عرضًا، و10 أمتار علوًّا، ويعلوها قبو عليه رسومات عديدة مزدانة ومزركشة بألوان متنوّعة بديعة، تنقسم إلى سبعة أقسام تمثل سبع صور ترمز إلى الفنون أو العلوم السبعة التي كانت تدرّس بالجامعات في ذلك الابّان وهي: النحو، والبلاغة، والجدل أو المنطق، والحساب، والفلك وخصّصت الواجهتان الشمالية والجنوبية لعلمي الفلسفة واللاّهوت. وهناك 14 رسمًا لبارطولومى كاردوشو تصوّر قصصًا لها صلة بالفنون والعلوم المذكورة وبعض العلماء الذين نبغوا في هذه العلوم. ويشير الأب تيودورُو – أحد الذين عملوا في هذه الخزانة- إلى أنّ أجمل وأحبّ المخطوطات إلى نفسه هي المخطوطات العربية، حيث يعجز عن وصف جمالها وروعتها، ويؤكد أنه من أغرب ما لوحظ أنها مكتوبة بحبر أو مداد يحتوي على مادة قوية مضادّة للحشرات، بحيث لا تقترب من هذه النفائس ولا تلحق بها ضررًا ولا تلفًا. وقد اعترف الأب تيودورُو أنّ محاكم التفتيش كانت قد أحرقت بالفعل العديد من المخطوطات العربية، وعليه فإنّ بعضها قد تمّ إيداعها في المكتبة وهي مخيطة مخافة إحراقها أو تدميرها من طرف المتعصّبين.
هذه بضاعتنا رُدّتْ إلينا..!
كان المسؤولون المغاربة عن الشأن الثقافي قد صرّحوا في 19 كانون الثاني 2010 أنّه سيتمّ تصوير المخطوطات المغربية الموجودة في مكتبة الإسكوريال بمدريد وإعداد نسخ منها على الميكروفيلم لتصبح متوفّرة للاستعمال في المكتبة الوطنية بالرّباط. تحقيق هذه الغاية، أيّ الحصول على بعض النسخ من هذه الميكروفيلمات لم يتمّ إلاّ في 7 شباط 2011. علمًا أنه قبل هذا التاريخ بكثير في عام 1997 (أيّ منذ ما ينيف على 14 عامًا قبل هذا التّاريخ) كانت الملكة الإسبانية السّابقة صوفيا خلال زيارةٍ لها لمصر في هذا التاريخ قد أهدت مجموعة من ميكروفيلمات المخطوطات العربية بدير الإسكوريال إلى مكتبة الإسكندرية، بما فيها المخطوطات المغربية على وجه الخصوص. لا جَرَمَ أنّ الباحثين، والدّارسين الذين تسلّموا هذه المخطوطات كان لسانُ حالهم يقول، مثلما قال أبو القاسم الصّاحب بن عبّاد عندما وقع بين يديْه كتابُ “العِقد الفريد” لابن عبد ربّه الأندلسي: “هذه بضاعتنا رُدّتْ إلينا!”. وتجدر الإشارة في ختام هذه العجالة إلى أنّ المغرب ما فتئ يطالب إسبانيا بإلحاح واستمرار باسترجاع مخطوطاته العربية القابعة في دير القدّيس سان لورينثو الإسكوريال بإسبانيا منذ نهبها، والسّطو والاستيلاء عليها عام 1612- من طرف القراصنة الإسبان بالقرب من مدينة سَلاَ المغربية.
العنوان الأصلي للمقال هو: