تمر المنطقة المغاربية بمرحلة دقيقة مرشحة لكل الاحتمالات، إما هبّة تتيح تجاوز المنعطف بطرح القضايا الجوهرية، في أناة وتبصر، ما يؤهل المنطقة لتضطلع بدور ريادي، وإما التعنت في التشبث بقوالب الماضي، ما يُعرّضها لهزات عنيفة قد تعصف حتى بما يُعتبر من المكتسبات. الستاتوكو، أو الوضع القائم والبراديغميات المعمول بها، من قبيل سمو الأنظمة على الشعوب، أو الوطنيات القسرية كما يسميها المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورة، لم تعد ممكنة.
ومثلما يقول المنصف المرزوقي، فلا دولة في البلاد المغاربية قادرة لوحدها على مواجهة التحديات القائمة بمعزل عن الدول الأخرى، أو من دون تضافر الجهود بينها. الاتحاد المغاربي، كما انتظم في معاهدة مراكش، فشل وينبغي التفكير في شيء جديد.
بتاريخ 22 فبراير انتظم في جنوب شرق المغرب، في قرية نائية هي محاميد الغزلان لقاء تجاهله الإعلام الرسمي المغربي والقريب من الرسمي، كان موضوعه التفكير في الوضع المحتقن الذي يسود المنطقة المغاربية. للأماكن دلالتها، ومحاميد الغزلان من الأماكن ذات الرمزية المغاربية، شأنها شأن وجدة، أو ساقية سيدي يوسف في تونس، التي قصفها الطيران الفرنسي مخلفا العشرات من الضحايا المدنيين، أو عين الشعير التي قصفها الطيران الفرنسي جنوب شرق المغرب في يونيو 1956. ومن محاميد الغزلان، عبّر الملك المغفور له محمد الخامس عن الحلم المغاربي، غداة قصف القوات الفرنسية والإسبانية لجيش التحرير في الصحراء، في ما عُرف في الأدبيات الاستعمارية بعملية إيكوفيان (وهي كلمة فرنسية قدحية تعني مشط الخيول)، أو في الوجدان الشعبي بـ خبط الطايير». كانت فرنسا تتوجس أن تشمل عمليات المقاومة في الجزائر منطقة الصحراء، وأن تمتد إلى موريتانيا، بتعبير آخر كانت تريد أن تجهض نواة تنظيم مغاربي ينطلق من الصحراء.
في أعقاب العملية العسكرية الاستعمارية المشتركة، ألقى الملك الراحل محمد الخامس خطابا بتاريخ 25 فبراير 1958 بمحاميد الغزلان، يتضمن محاور ثلاثة هي، تحرير الصحراء أخذا بعين الاعتبار الروابط التاريخية مع المغرب وإرادة السكان، والمحور الثاني استقلال الجزائر، والمحور الثالث هو الوحدة المغاربية. كان خطاب محاميد الغزلان المحطة الأولى للقاء طنجة في إبريل من السنة ذاتها، الذي دعت له الأحزاب الوطنية الثلاثة المغاربية من أجل الوحدة المغاربية. زاغت القاطرة عن السكة غداة الاستقلال، ووضعت البعد المغاربي أفقا، في كل من محاميد الغزلان وطنجة، وقبلهما في الصومام بالجزائر من قِبل جبهة التحرير الوطنية (20 أغسطس 1956).
منذ الحراك الديمقراطي الذي عرفته المنطقة، يعود حلم الوحدة المغاربية إلى الواجهة. يُحسب لمركز محمد بنسعيد للأبحاث والدراسات، أنه وضع على عاتقه التفكير في المغرب، من دون أن يتجاهل قضية الصحراء «للوصول إلى إطلاق حوار جدي بين الانتلجنسيات المغاربية بدون استثناء أو إقصاء، قصد الإحاطة بكل جوانب النزاع واستشراف سبل حل في أطار مغاربي». هدف المركز الذي لم يتوان في الدعوة له، هو أن تصبح قضية الصحراء صلة وصل، عوض عامل فصل، أو بؤرة توتر. كان من المفترض أن يلتئم لقاء اشتغل عليه المركز يضم فاعلين وناشطين من المنطقة المغاربية برمتها، في مراكش لما لها من رمزية، منذ 2016، لأنها عاصمة كل من المرابطين والموحدين، وهما الدولتان اللتان جسدتا الوحدة المغاربية، يكون أرضية «لفتح قوس جديد يرفع عن المجتمعات المغاربية وشعوبها إصر المعاناة التي ترزح تحتها، ويدرأ عوامل التخريب والتهديد»، إلا أن وفاة محمد عبد العزيز القائد السابق للبوليساريو، حال دون أن ينعقد اللقاء.
لم تكن مصادفة أن يحضر محمد بنسعيد آيت إيدير لقاء محاميد الغزلان، كان عضوا في جيش التحرير بالصحراء، وكان شاهدا على مراحل الكفاح المغاربي، وعاش لفترة في الجزائر بأوراق ثبوتية جزائرية، وارتبط بالشباب الصحراوي المنادي بتحرير الساقية الحمراء، وعرف الفقيد مصطفي الوالي، زعيم جبهة البوليساريو.. كان رصيد محمد بنسعيد النضالي والتاريخي حاضرا في لقاء محاميد الغزلان. لم يمضغ بنسعيد كلماته، كما يقال بالفرنسية، وصدح بأن الوضع الحالي معبر عن فشل ذريع للنخب المغاربية قاطبة، ونطق بما اعتبره أماني أو أمانة على كاهل الأجيال الناهضة في عالم يموج بالمتغيرات. كان أهم ما ورد في كلمته ضرورة مصالحة المجتمع والدولة وبناء الثقة بينهما في كل الأقطار المغاربية، وتجنب الانزلاقات، وتضافر الجهود من أجل الانفراج، ومصالحة المغرب والجزائر مصالحة الشرفاء، لأن مستقبل المغرب هو الجزائر، ومستقبل الجزائر هو المغرب. في اللقاء ذاته، لم يتحرج المؤرخ مصطفى بوعزيز المتحدر من فكيك، حيث تتوزع أسرته ما بين المغرب والجزائر من الخروج عن السبل المطروقة، ينطلق من معاينة وضع محتقن آيل للانفجار ينعته بالعمى الاستراتيجي، لا يمكن تجاوزه إلا في إطار مغاربي، ومن أجل ذلك، يطرح بوعزيز ضرورة التوفيق بين الهويات المتنافرة، المحلية والوطنية والإقليمية، كي تكون متكاملة، والحال أن الهويات الوطنية منذ فجر الاستقلال، في كل من المغرب والجزائر وليبيا، طمست الهويات المحلية، وتضاربت مع البعد الإقليمي. لا يمكن الزعم بأن لقاء محاميد الغزلان كان ممثلا لكل الرؤى، أو لكل الحساسيات بالتعبير الفرنسي، ولكنه كان نواة أولى، وحضره البعد الصحراوي، من خلال رئيس حركة خط الشهيد، المحجوب السالك، المنشق عن البوليساريو، وعنصر سابق من البوليساريو حمادة البويهي، ونائبة تتحدر من قبائل التكنة، من المكونات الكبرى لقبائل الصحراء، حسناء أبو زيد..
ينطلق المحجوب السالك، من معاينة تحريف مسار، ووضع سيريالي في المنطقة، ناتج عن حدود مغلقة، وفصم روابط تاريخية وإنسانية، لا تتيح تنقل الأشخاص، مع ما يترتب عن ذلك من مآس. لم يتورع من التجني عمّا سماه بمافيات تعيش من النزاع. شجبت السياسية الصحراوية حسناء أبو زيد ما اعتبرته باروديا حوار (أو حوار صوري)، لأن المحادثات ليست هي الحوار، ووضعت آمالها في المثقفين أمام انسداد أفق السياسيين واجترارهم الخطب نفسها. أما الشاب حمادي البويهي الذي عاش طفولته كلها وشطرا من شبابه في المخيمات بتندوف، فيأسى لما نعته بالعقم الفكري الذي عجز عن وضع حد للتوتر بالمنطقة، ولوضع إنساني مريع بالمخيمات، وينادي بتصور جديد لحل النزاع، لأن عالم اليوم ليس عالم الأمس. كان لي شرف إدارة لقاء اتسم بالجرأة والواقعية. وما أحوجنا في ظرفية مضطربة أن نتسلح بالوعي والجرأة، بَرّا بحلم الماهدين ممن حملوا حلم الوحدة المغاربية، ورفعا للتحديات القائمة، فلا أكثر ثورية من فكرة آن أوانها، كما يقول فيكتور هوغو. والمعادلة الصحيحة هو أن الأنظمة ينبغي أن تكون في صالح الشعوب وليس الشعوب في خدمة الأنظمة، وهو ما تطرحه الشعوب المغاربية في الآونة الحالية في وعي وتبصر وإصرار.