أصدر مرصد أمريكا اللاتينية بالرباط تقريره الأخير لعام 2018 بشأن أمريكا اللاتينية، ويعتبر تقرير هذه السنة النسخة السادسة من إصدارات المرصد، وذلك منذ نشأته سنة 2013 بمبادرة من نخبة من الباحثين الشباب من ذوي الإلمام بشؤون أمريكا اللاتينية. وقد وضع تقرير هذا العام على غرار تقارير الأعوام السابقة، تشخيصا وتحليلا استشرافيا للأوضاع اللاتينية الراهنة وتحولاتها المتسارعة، وبشكل خاص السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى تخصيصه لمحور عن العلاقات المغربية اللاتينية.
ومن أبرز مواضيع هذا العام، الأزمات السياسية والاقتصادية اللاتينية، حيث أورد التقرير أن تجـــارب دول المنطقة مع الأزمات الاقتصادية لم يسهم في إكسابها مناعة وقوة، مشيرا بأن نمو اقتصاد الأرجنتين مازال يشهد كسادا وأن حجم استدانتها في تزايد. وبشأن فنزويلا كشف التقرير بأنه بالرغم من توفر هذا البلد على أحد أكبر احتياطات النفط في العالم إلا أن هذا الأمر لم يسهم في إخراج فنزويلا من أزمتها الإقتصادية. وبالنسبة للمسألة الأمنية اللاتينية، أشار التقرير أن انعدام الأمن في أمريكا اللاتينية يستمر كتحد قائم بالمنطقة.
وبشأن الزعامة الاقليمية بأمريكا اللاتينية، فقد أورد التقرير بأنها ستنحصر أساسا بين البرازيل الطامحة في الاستمرار في قيادة المنطقة والمكسيك الساعية إلى لعب دور مهم بالمنطقة يتوافق مع مكانتها، خاصة بعد انتخاب لوبيز أوبرادور رئيسا للدولة، حيث يتوقع التقرير، خلال ولايته، عودة المكسيك إلى مسرح أمريكا اللاتينية بعد غيابها عن الاقليم لمدة طويلة بسبب اهتمامها لما يزيد عن عقد بتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الولايات المتحدة وكندا.
وبالنسبة للعلاقات المغربية اللاتينية، أشار التقرير إلى أنه بالرغم من ارتفاع المبادلات التجارية المغربية اللاتينية خلال الأعوام الأخيرة، إلا أنها مازلت محدودة ومتواضعة، مشيرا بأنها قد انتقلت من 360 مليون دولار عام 1993 إلى نحو 2.8 مليار عام 2017، وأورد التقرير بأن شراكات المغرب في المنطقة لم تطرأ عليها أية تحولات حيث تستمر البرازيل والأرجنتين كأهم شريكين للمغرب بالمنطقة.
وأشار التقرير إلى أن صادرات المغرب من الفوسفاط ومشتقاته في ارتفاع مضطرد مشيرا بأن المكتب الشريف للفوسفاط يطمح إلى زيادة صادراته إلى المنطقة لتبلغ 3 ملايين طن عام 2019 مستندا في ذلك إلى توقيع المكتب لعقود تمكنه من تزويد البرازيل بمشتقات الفوسفاط والأسمدة الكيماوية على الأمد البعيد واقتنائه لنسبة 10 بالمئة من شركة “هرينجر” للأسمدة بقيمة 55 مليون دولار، مشيرا كذلك بأن الآفاق المستقبلية واعدة بين المغرب والمنطقة.
وارتباطا بالتحولات السياسية المرتقب أن تشهدها أمريكا اللاتينية، بناء على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2018 ودراسة توجهات القارة المستقبلية، فقد أورد التقرير بأنه بعد فترة تميزت باندلاع العديد من فضائح الفساد السياسية وتصاعد أحداث العنف واحتدام الأزمات السياسية وتفاقم معدلات الهجرة وكساد الاقتصاد بأمريكا اللاتينية، فقد شهدت هذه القارة عام 2018، تنظيم ستة انتخابات رئاسية، أملا في التغلب على هذه الاشكاليات وتحييد تداعياتها، وذلك بعدما أخذت الأوضاع في أمريكا اللاتينية تثير العديد من المخاوف والتوجسات.
وتفاعلا مع هذه الانتخابات الرئاسية، فقد أورد التقرير بأن نتائج ھذه الاستحقاقات كانت متفاوتة، حيث أثمرت فوز ثلاثة حكومات يسارية وأربعة حكومات يمينية في هذه الرئاسيات، مشيرا بأنه بقدر ما ساد بهذه القارة التصويت للاستمرارية وإعادة انتخاب الحزب الحاكم، ساد بها أيضا التصويت للتغيير والتناوب على السلطة، وذلك بإنجاح المعارضة وتمكينها من السلطة، غير أن التقرير لم يغفل الإشارة إلى أن نتائج هذه الرئاسيات أفرزت حكاما جُدد، إلا أنهم – وفقا للتقرير- يفتقدون للأغلبية البرلمانية للحكم بأريحية وتمرير تشريعاتهم والقيام بإصلاحاتهم الكفيلة ببلورة تعهداتهم الانتخابية وتحويلها إلى مشاريع وانجازات ملموسة لتلبية تطلعات ناخبيهم.
وبشأن الولايات المتحدة المكسيكية، فقد أشار التقرير إلى فوز مرشح اليسار، لوبيز أوبرادور، ممثلا عن حزب (Movimiento Regeneración Nacional) “ذي التوجهات اليسارية القومية” في انتخاباتها الرئاسية وذلك بحصوله على نسبة 53 ٪ من الأصوات، متجاوزًا غريمه ريكاردو أنايا، ممثلا عن حزب (Acción Nacional) “حزب ذوو توجهات يمينية ونزعة مسيحية” وبعد الإطاحة بالمرشح أنطونيو ميد، ممثلا عن تحالف من الأحزاب من بينها حزب (Partido Revolucionario Institucional) ذوو التوجهات اليمينية المحافظة وحزب الرئيس المنتهية ولايته إينريكي بينيا نيتو.
ووفقا للتقرير فقد أسفرت هذه النتائج عن إحداث تغيير في المكسيك مثلما توقعت ذلك غالبية الاستطلاعات، غير أنه أشار بأن هناك العديد من التحديات المطروحة على الرئاسة الجديدة، ومنها أساسا الوفاء بإصدار “العفو العام” في حق المجرمين المُقترح من طرف لوبيز أوبرادور إبان حملته الانتخابية والقيام بالإصلاحات الضرورية لتقويم اختلالات الدولة واستتباب الأمن والحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة، ويضيف التقرير بأن البلد تطرح مستقبلا عدة تساؤلات متعلقة بمصير حزب (Partido Revolucionario Institucional) وأدوار الحروب القذرة في السياسة ووظائف المعارضة أملا في إحداث تحولات جذرية في هيكلة الدولة.
وبالنسبة للبرازيل فقد أشار التقرير إلى فوز الجنرال المتقاعد جائير بولسونارو ممثلا عن حزب (Partido Social Liberal) “اليمين المتطرف” بالرئاسيات البرازيلية لشهر أكتوبر2018 وذلك بنسبة 55٪ من الأصوات متفوقا على منافسه فرناندو حداد عن حزب (Partido de los Trabajadores) “ذوو التوجهات اليسارية التقدمية” واستطرد التقرير، بناء على توقعاته، أن يحكم جائير بولسونارو خلال ولايته بسياسة متشددة تجاه الهجرة والجريمة وحيازة السلاح والسياسة الخارجية والمواقف من الأزمات الاقليمية بسبب توجهاته القومية المتشددة.
وتوقع التقرير بأن اهتمامات الرؤساء الجدد بأمريكا اللاتينية ستنصب أساسا على تعزيز الديمقراطية والشفافية والحكامة الرشيدة والعناية بمؤسسات الدولة، وذلك بحثا عن المزيد من التنافسية باقتصادات القارة المتراوحة بين المتواضعة والمحدودة. بالإضافة إلى إجراء إصلاحات هيكلية لتكييف أمريكا اللاتينية مع البيئة الدولية الجديدة حيث أن “الرفع من معدلات التجارة وأداء الاقتصاد وتحسين المستويات المعيشية والأوضاع الاجتماعية (كالحد من الفقر) تبقى مشروطة – وفقا للتقرير- باقتصادات قوية وسياسات عمومية ناجعة لربط أمريكا اللاتينية بالدورة الإنتاجية الدولية”، خاصة وأن أمريكا اللاتينية تمر بمرحلة مفصلية بسبب تحدياتها المتعددة وتناقضاتها الكبيرة.
وعلاقة بكوبا، فقد أورد التقرير، بأنها قد لفتت أنظار العالم إليها، بسبب تحولاتها المرتقبة، بعد وفاة زعيمها فيديل كاسترو، مشيرا بأن كوبا دخلت مرحلة سياسـية جديدة في تاريخها المعاصر، وذلك من خلال إعدادها لوثيقة دستورية جديدة للجمهورية بإجـماع أعضاء “الجمعية الوطنية للســـلطة الشـــعبية” وأشار التقرير بأن هذا الدستور يعد من حيث شكله وقياسا بالاصلاحات والتعديلات الدستورية السابقة دستورا جديدا سينسخ دستور عام 1976.
وأورد التقرير بأن أهم التغيرات الدستورية الجديدة تتمثل في إدراج مفهوم “دولة القانون الاشتراكية” في النسخة الجديدة للدستور وحذف المرجعية الشيوعية وتنصيصه على الحق في الملكية الخاصة وترحيبه بالاستثمارات الأجنبية، ومن الناحية المجتمعية والحقوقية أورد التقرير بأن من مستجدات الدستور الجديد فتح الباب أمام زيجات المثليين حيـــث أنه وبخلاف الدســـتور الحالي نص الدستور الجديد في البند 68 عـلــى أن “الزواج هـــو اتحـــاد طوعي ومتفـق عليه بين شخصين مع الأهليـــة القانونيـــة لذلك من أجـــل حياة مشـتركة”.
ومـــن الناحيـــة المؤسســـاتية أورد التقرير بأن الدستور الجديد أحدث منصب رئيـــس الدولة ومجلسا للـوزراء “حكومة” وذلك في البند 120 مشيرا بأنه يتـــم انتخابه من قبل الجمعية الوطنية للســـلطة الشعبية بحســـب البند 121، فضلا عن تحديد ولاية الرئيس في مدة 5 ســـنوات قابلـــة للتجديد مرة واحدة. وكشف التقرير من جانب آخر، أن هذا الدستور، ليس بمثابة قطيعة مع الثورة وإنما امتدادا لها وذلك من خلال تمجيده للثورة وزعيمها، وإنما تكييفا للدولة مع المتغيرات الدولية، كما يعتبر مؤشرا على انتقال سياسي في حدود وإطار المنظومة نفسها.
واختتم التقرير تصوره للدستور الجديد بكوبا بكونه دليلا على براغماتية وواقعية النظام القائم بكوبا لمواجهة التحديات الداخلية والدولية وتجاوز حالـة الجمود والعزلة الدولية والدفع باقتصاد الجمهورية نحو المزيد من الانفتاح، واستطرد التقرير تقديره، بأن الاصلاحات الدستورية المستجدة بكوبا، ليست بمثابة قطيعة مـــع الثورة، واستبعد إدارة الدولة لظهرها للمنظومة الاشتراكية واستبعد إستدارتها للمنظومة الليبرالية والرأسمالية، معتبرا بالنهاية، بأن هذا الدستور من شـأنه خدمة النظـــام مستقبلا، كونه سيحدث شرعية للنظام بإصلاحاته وتعديلاته.
وفي استشرافه للتوجهات المستقبلية بأمريكا اللاتينية فقد كشف التقرير بأن أمريكا اللاتينية ستشهد تحولات خلال الولايات الرئاسية للرؤساء الجدد، طالما أن التغيير بهذه القارة أصبح ضرورة حتمية للتكيف مع المستجدات الدولية وملاحقة ركب العالم الجديد الآخذ في التبلور يوما بعد يوم، مشيرا بأن الأوضاع الحالية للقارة بحاجة إلى ديناميكية جديدة تمكنها من المرور من مرحلة انتقالية والعبور إلى مرحلة الاستقرار، خاصة وأن أمريكا اللاتينية طبعتها طيلة عقود خصوصية سياسة الحكومات المتعاقبة “المتغيرة” بدلا من سياسات الدولة “الثابتة”.
كما اهتم التقرير كذلك باستعراض تحولات الحركات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية والواقع القانوني والسياسي للمسلمين في البرازيل وتنامي ظاهرة الهجرة في المكسيك وأمريكا الوسطى.
وتجدر الإشارة بالنهاية إلى أن تقرير مرصد أمريكا اللاتينية لعام 2018 ينضاف إلى مجموعة من الاصدارات الفكرية دأب المرصد طيلة السنوات الستة الأخيرة على إعدادها بفضل نخبة شابة من الباحثين في شؤون أمريكا اللاتينية والمتتبعين لتحولاتها المستجدة. وجدير بالذكر كذلك بأن مرصد أمريكا اللاتينية يعد مبادرة فكرية مستقلة بذاتها وغير تابعة لأية جهة حكومية أو رسمية وتعتمد في إعداد تقاريرها على مساهمات تطوعية من أعضاء فريقه البحثي بتنسيق من الباحث محسن منجيد.