نحو ثمانين يوماً تفصل الجزائريين عن الانتخابات الرئاسية المقررة في الثامن عشر من نيسان (إبريل) المقبل. ورغم أن هذه المدة قصيرة جداً للتحضير، سياسياً ولوجيستياً، لحدث كهذا وخوضه بما يستحق من جدية، لا شيء في البلاد يوحي بأنها مقبلة على حدث مصيري، باستثناء حديث «المرشحين الأرانب» وطرائفهم.
هناك وقائع لا تخطئها العين، تدل على أن شيئا ما لا يسير على ما يرام في أعلى هرم السلطة وبين مكوناتها: التلفزيون الحكومي، ومن دون أن يتوقف لحظة عن تمجيد بوتفليقة، صائم عن خطاب ترويجه انتحابيا. أذرع النظام الإعلامية في القطاع الخاص في وضع مشابه للتلفزيون الحكومي. الأحزاب الموالية للنظام تمر بفترة صمت مربك في انتظار توجيهات، تأخرت، لبدء التطبيل لبوتفليقة. النقابات التي تركت منذ زمن العمال ومعاناتهم الكثيرة، على رأسها الاتحاد العام للعمال الجزائريين، خارج التغطية ولا تعرف ماذا عليها أن تقول أو تفعل. الهيئات الأهلية وجمعيات المجتمع القريبة من السلطة والتي احترفت تأليه بوتفليقة في العقدين الماضيين لاذت في صمت غير مألوف. الأحزاب (التي تسمّى مجازاً معارِضة) تنتظر إشارات من السلطة الفعلية وأذرعها الإعلامية لاتخاذ قرارها تجاه الحدث المرتقب. المجتمع في حالة انقطاع تام عن السياسة وأهلها ويلهث وراء لقمة العيش.
هذه الصورة المشوشة دليل وضع غير صحي وعلامة على طبخة لم تستوِ بعد.
كل هذا لأن الرئيس بوتفليقة لم يكشف بعد عن ترشيح نفسه، أو ترشيح النظام له. في أي انتخابات في العالم، وفي وجود رجل مثير للجدل، كما هو حال بوتفليقة اليوم، يكون إما ترشحه مشكلة أو عدم ترشحه هو المشكلة. مع بوتفليقة، الجزائر بسياسييها ومؤسساتها في مأزق: ترشح بوتفليقة مشكلة، وخطر على البلاد، بالنظر إلى حالته الصحية المتردية. وعدم ترشحه مشكلة لأنه قد يتضمن إعادة النظر في الانتخابات وسوق البلاد نحو وضع غير دستوري.
تعوَّد النظام الجزائري منذ 1992 على أن يجد نفسه في مأزق كلما حان موعد تغيير الرئيس، بانتخابات أو بطريقة أخرى غير الاقتراع. المأزق كان يفرض على النظام تأخير إعلان مرشحه، وكان ذلك يعطي الانتخابات نكهة وتشويقا ويمنحها بعض المصداقية. الشاذلي بن جديد عُين رئيساً في 1979 خارج كل التوقعات والترتيبات. محمد بوضياف جيء به في آخر لحظة في مفاجأة لم تخط ببال أحد. اليمين زروال جيء به في الوقت بدل الضائع وبعد مفاوضات ماراثونية. فرضه الجنرال خالد نزار رئيساً على الجزائريين وحتى على نفسه في آخر لحظة بعد رفض عبد العزيز بوتفليقة شروط السلطة الفعلية مقابل منحه الرئاسة. كذلك لم يترشح بوتفليقة من الوهلة الأولى في 1999 وفي الانتخابات الثلاث التي تلت ذلك.
كان التأخير و«الدلال» في كل الحالات السابقة يحدث وسط مأزق سياسي اختلفت حدته صعوداً أو نزولاً في كل مرة. وكان يتم في ظروف أقرب إلى الطبيعية، بل وكان يوظَّف سياسيا في اتجاه يخدم مصداقية الانتخابات. أما المأزق اليوم فعميق وفي سياق مختلف، داخليا وخارجيا.
التحليل القائل إن النظام يبحث عن مرشح لم يجده بعد، لا يستقيم، وتدحضه عوامل عدة، منها شخصية بوتفليقة والمحيطون به. بوتفليقة يؤمن بأنه خُلق ليكون رئيساً إلى آخر رمق من عمره، وبعدها تُبنى له التماثيل.. وبأن على الجزائريين أن يشعروا بالامتنان له لأن رضي أن يكون رئيسا عليهم. والمحيطون به رعوا هذا الاعتقاد النفسي معززاً بآخر جهوي (مناطقي)، وثالث سياسي منطلقه أن الرئيس أنقذ البلاد وحقق لها المعجزات. علاوة على أن هؤلاء جمعوا من المصالح المادية والنفوذ ما يجعلهم يبذلون الغالي والنفيس ليبقى يوتفليقة في الحكم حامياً لمصالحهم.
حيرة النظام الآن هي في تسويق بوتفليقة للداخل والخارج وهو في هذه الحالة البدنية والذهنية المثيرة للشفقة. مهمة شاقة تنتظر رجال النظام.. أن يجدوا طريقة تقنع الجزائريين بأن بوتفليقة هو الأفضل للرئاسة والأجدر بها حتى وهو في هذه الحالة الصحية المتردية. عليهم أن يتذكروا، ويحسبوا حساب أن الجزائريين، وثلاثة أرباعهم شباب، لن يُصدّقوا كلمة واحدة مما سيقال لهم عن بوتفليقة ومعجزاته. عليهم أن يحسبوا حساب فيسبوك وغيره من أدوات الإعلام الاجتماعي القادرة على نسف كل شيء في أي مكان في لحظة واحدة. عليهم ان يحسبوا حساب التفاصيل اليومية المتعلقة بالانتخابات، بدءاً من تقديم طلب الترشح شخصيا إلى الحملة الانتخابية فالتصويت ثم اليمين الدستورية.. إلخ، مع رجل لا يقوى على تحريك ذراعه.
تلكم هي المعضلة التي حاصر بها بوتفليقة الجزائر. وهي تبدو أصعب من معضلة البحث عن مرشح جديد من العدم، ثم التوافق عليه والمضي به كل ذلك المسار الطويل المؤدي إلى كرسي الرئاسة.