على الذين
يرون أن «الربيع العربي» انتهى وأن الدليل في سوريا، أن ينظروا إلى السودان. لا
علاقة مباشرة لزيارة الرئيس السوداني المأزوم، عمر البشير، إلى نظيره السوري،
المأزوم أكثر منه، بشار الأسد، إلا من حيث كونها (الزيارة) تُفسَّر، عبثا، بأنها
آخر مسمار في نعش «الربيع العربي».
يجب بداية الاتفاق على أن هناك أشياء لا تتكرر مرتين في الحياة،
أحدها طوفان 2011 في المنطقة العربية. حتما لن يتكرر في صيغته تلك وبكل تفاصيله
ومفاجآته الكثيرة التي نذكر. لكن سيأتي ما يشبهه أو ما يختلف عنه، لا يهم. الأهم
أنه من الخطأ تناسي أن رغبة الشعوب في التغيير سُنة من سنن الحياة.
ما أن تواردت أخبار التطبيع الخليجي مع النظام السوري في دمشق،
حتى تهاطلت عبارات النعي لـ«الربيع العربي». بسرعة برزت لغةٌ تقسّم الواقع إلى
منتصر ومهزوم ـ مع إبراز الرئيس بشار الأسد منتصرا. لكن، عن قصد ومن دونه، تكرر في
كل عبارات النعي أن «الربيع العربي» مات رسميا. ما يعني أنه مستمر شعبيا، أو لم
يمت، على الأقل.
هنا مربط الفرس. مصطلح «رسميا» في الثقافة السياسية العربية لا
يبعث على الارتياح، ويحيل إلى عدم الثقة. كل شيء رسمي هو مبعث قلق.
أما الزعمُ أن هذا الربيع مستمر شعبيا، فلا يحمل مغالطة أو
مخاطرة. إنه فعلا مستمر، والدليل في شوارع السودان. بتوضيح أكثر: انتهى ربيع العرب
في صالونات السياسة وتحليلات «الخبراء الاستراتيجيين» وخطابات محترفي السياسة.
وانتهى في مخيلة ممولي ومروجي الثورات المضادة، لكنه يتواصل في السودان، في انتظار
دول أخرى قادمة بلا أدنى شك. صحيح أن شوارع السودان تصرخ بشعارات رفض الجوع
والغلاء والقهر الاقتصادي أكثر منها بنداءات الحرية والديمقراطية، لكن الأسباب
واحدة هي ذلك النظام القمعي الحاكم وتفرعاته. والمحصلة واحدة، وهي أنْ طفحَ الكيل
بالناس. يستطيع االرئيس عمر البشير والمستفيدون من وجوده أن يكيلوا ما شاؤوا من
الاتهامات لمن نزلوا إلى الشارع. لم يعد ذلك ينفع، وقد سبقه إلى دفتر الاتهامات
الجاهزة زين العابدين بن علي ومعمر القذافي وحسني مبارك وبشار الأسد في ما يشبه
العمى السياسي والدخول في حالة إنكار لوجود أنهار من الغضب الشعبي.
الذين يحتفلون
بنهاية «الربيع العربي» ينطلقون من مقاربة في غير محلها تقوم على مقارنة بين 2011
و2018. التغييرات الكثيرة والسريعة التي طرأت دوليا وإقليميا لا تسمح بالمقارنة
بين الفترتين. 2011 ترك وراءه دروسا وعِبَر هائلة غيّرت الناس وأمزجتهم لكنها لم
تقتل فيهم رفض الإذلال والظلم. الظروف تغيّرت فعلا، لكن نحو إفراز مزيد من الغبن
والقمع والغضب الفردي والجماعي، ما يعني تجدد أسباب الانتفاضة للشباب العرب في
أكثر من بلد. رعاة الثورات المضادة الذين يعتقدون أن القمع الذي أعقب موجات 2011
و2012 في مصر وسوريا وليبيا وغيرها، سيكون هو العلاج مخطئون، وعليهم أن يدركوا أنه
سيكون هو وقود الثورات المقبلة، عاجلا أم آجلا. إنها مسألة وقت فقط.
التطبيع الخليجي مع نظام الأسد، الذي يراد له أن يكون هو مقياس
فشل ثورات الشعوب، لا يبدو نابعا من قناعة سياسية ورؤية استراتيجية واضحة. إنه
بالأحرى تعبير عن إرباك تعيشه الدول التي تعتبر نفسها رئيسية في الخليج،
كالسعودية، نتيجة الاخفاقات المتكررة لسياساتها إقليميا ودوليا.
هو انتقام وردُّ فعل عشوائي على واقع مُرّ يحاصر هذه العواصم
بقيادة الرياض. الدول (الخليجية) التي تقف وراء محاولات التطبيع مع الأسد لا تملك
حرية قراراتها. والدول التي يُنفَّذ بواسطتها هذا التطبيع (السودان، وقريبا
موريتانيا إذا تأكدت زيارة رئيسها إلى دمشق، والأردن) لا تملك حرية قراراتها
وسياساتها هي الأخرى. العنوان الأكبر لهذا الواقع هو إيران التي تحوَّلت إلى كابوس
لدول خليجية على رأسها السعودية. والعنوان الآخر هو قطر، وكذلك تركيا التي تزعج
سياسيا واقتصاديا أكثر مما تفعل طائفيا كما هو حال إيران. الهوس بإيران دفع
السعودية إلى البحث عن تقارب مع إسرائيل منتهكة كل المحاذير السياسية
والاستراتيجية والنفسية. هل بعد هذا يُستغرَب سعيها للتقارب مع النظام السوري؟
نحن، إذن، أمام شبكة عنكبوتية من العلاقات والمصالح: هذا
التطبيع تلتقي فيه المصالح الروسية والسعودية والإيرانية والأمريكية والسورية!
روسيا تحرّض العرب في الخفاء على التطبيع مع الأسد. السعودية والإمارات توفران له
الغطاء السياسي والدبلوماسي والمعنوي. هذا التطبيع يصب في مصلحة الرئيس فلاديمير
بوتين (قائد معسكر العداء لأمريكا والسعودية دوليا وإقليميا)، ولا يزعج دونالد
ترامب، ويقلق تركيا ويكرس انتصار إيران التي تدّعي السعودية محاربتها في سوريا
وأماكن أخرى.
إذا نجحت روسيا في إقناع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي
واللبناني ميشيل عون بزيارة دمشق («إنتيلجنس أونلاين» 19/12/2018)، ومع زيارة
الرئيس الموريتاني المرتقبة وجهود إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية،
سيتحقق ما يسعى إليه المحور السعودي في الخليج. وسيتكرس انتصار روسيا وإيران ونظام
الأسد. لكن ماذا عن السعودية مثلا؟ هل ستكون قد حققت انتصاراً ما، وما طبيعته؟ أم
سيكون ذلك انتكاسة أخرى تضاف إلى سجل انتكاساتها الكثيرة في السنوات الأخيرة؟
هناك أطراف عدّة مستفيدة من التطبيع مع الأسد، ليس من بينها
العرب «المُطبِّعون». هؤلاء تعودوا على الخسائر ودفع فواتير ما يجني الآخرون.