لا أحد ممن تضعه المصادفة أمام متحف اللوفر يستطيع أن يقاوم حالة انجذاب لافتة تسيطر عليه، وهو يجلي بصره في اللوحات التشكيلية المتنوعة وبأحجام مختلفة والمرتبة بحس هندسي وجمال رسالة وخطاب. هذه اللوحات جلها تؤرخ لمراحل هامة من تاريخ فرنسا. ويصادف الزائر في ذات المقام لوحات مماثلة في زيارة متحف برادو في مدريد تؤرخ للذوق الفني الإسباني وللتاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا البلد الإيبيري. وهكذا قد يأخذك هذا الانتشاء الفني الذي يسري مع الاتصال البصري بتلك اللوحات من متحف أوروبي إلى آخر. فقد نجح الأوروبيون عموما في تخليد الأحداث التاريخية الكبرى فنا ورسما. لكن عملا مماثلا هو غائب في العالم العربي، وهذه الظاهرة الفنية تكاد لا تحوز لها حيزا فيه، ومن أسبابها الرئيسية ضعف التصوير ورهان الفنانين على التجريد حبا وتبريرا.
ولعل إطلالة سريعة على تاريخ الفن التشكيلي وحتى النحت، سيرصد الباحث أو الناقد فيه كيف كانت تصير الأحداث التاريخية الكبرى مصدرا للإلهام الفني لرواد التشكيل، ومنهم من بصمت أسماؤهم مسار التشكيل العالمي. وتوجد مئات اللوحات التشكيلية الفرنسية التي أرخت للثورة الفرنسية، وتنفرد لوحة «الحرية منار الشعب» لأوجين دي لكروا بطابع خاص، فجماليتها تبهر المتأمل وشخوصها تمنحك شحنة معنوية للإيمان أكثر وأكثر بالحرية وبالقبض على مائها، وبهذا تعادل اللوحة في قيمتها وهي مصدر ثري للحرية، قيمة نصوص كبار المفكرين الذين مهدوا للثورة الفرنسية مثل جان جاك روسو.
ويقف التاريخ بكل ثقله وراء إبداعات الفنان الإسباني غويا، رسم مشهدين من ثورة الإسبان في مدريد ضد نابليون بونابارت في بداية القرن التاسع عشر، ومشهد الانتفاضة الذي يسبغ كل مشاهد للوحة بمشاعر الثورة ضد الظلم، ويلونها بلون التحدي كما تظهر في لوحة إعدام الثوار، وتجعلك تقف إجلالا لكل من دافع عن حريته، وتلزمك في الانخراط في ايحاءات قيمية تشيد بالإقبال والشجاعة والتضحية وتستنفر عندك تجاوبا مع خطابتها الإنسانية والجمالية.
وتهمين موضوعات تتناول الأحداث التاريخية الكبرى على معظم اللوحات التشكيلية المصففة في الخزانة الفنية والتشكيلية في الغرب، إذ هناك توجهات تنظيرية للتشكيل تعتبره فنا موثقا للحياة ولأحداثها وتاريخيها وثقافاتها. ورغم ظهور تيارات فنية جديدة ابتداء من القرن التاسع عشر مثل الانطباعية ثم الانفجار التشكيلي في القرن العشرين مثل الوحشية وبوب آرت، استمر رسامون كبار في رسم الأحداث التاريخية مثل لوحة بابلو بيكاسو «الغرنيكا» التي تؤرخ للهجوم النازي على قرية الغرنيكا في بلد الباسك في اسبانيا، وإنجاز رائد السوريالية سالفادرو دالي سنة 1962 للوحة رائعة أعادت إنتاج حرب تطوان بين المغرب واسبانيا التي وقعت سنة 1860 بشكل فني وتشكيلي، وباتت هذه الحرب مصدر إلهام طيلة قرن لرسامين إسبان، حتى صار التشكيل معها حاملا لخطاب وتصور استشراقي بل صارت نقطة انطلاقة الاستشراق التشكيلي الإسباني ينسج صورا وتمثلات تشكيلية تزود المخيال الإسباني بمعاني وقيم وأحاكم عن المغرب وعن العالم العربي.
لا نلقى هذا الواقع متحققا بهذا النضج التصوري لدور التشكيل ولخطابه عندما ننتقل إلى العالم العربي، إذ نصادف مكتبة تشكيلية شبه منعدمة. بل نجد أن التشكيلي العربي لم يهتم فنيا بتاريخه بالزخم ذاته أو على الأقل نصفه المتحقق لدى جيرانه الأوروبيين، ولم يبد اهتماما فنيا بأحداث الماضي. وحدث العكس في مجال الإبداع الأدبي، نجد أسماء لامعة تعاطت مع الرواية التاريخية، ونستحضر جميعا الأعمال الروائية للبناني جورجي زيدان، فقد أبدع في الرواية التاريخية وترك تراثا زاخرا مثل «شارل وعبد الرحمان»، و»فتى القيروان».
عندما احتك العالم العربي بالغرب بشدة في أعقاب حملة نابليون، بدأ يبحث عن الأشكال الإبداعية، وظهرت الصحافة وتعددت ترجمة الروايات الغربية، وبدأ فكر النهضة الأوروبية يبهر مفكرين عربا، لكن التشكيل لم يجد طريقا إلى العالم العربي. وإذا كان تأويل الفقهاء لتشريعات الدين الإسلامي قد منع ظهور حركة فنية، بل أنه لم يزدهر حتى عند المسيحيين في مصر ولبنان وسوريا رغم تأثير الكنيسة الكبير على الفن التشكيلي، فقد مولت الكنيسة أعمال الرسامين واقتنت منهم اللوحات وكانت مصدر الالهام لهم، ولهذا تعج الكنائس باللوحات في العالم العربي.
لم يهتم العرب بالصورة أو الرسم في اطلاعهم على تراث النهضة الأوروبية، فقد انبهروا بالفكر والإبداع الأدبي وباقي العلوم، ولم يكتب للتشكيل العربي الظهور وقتها، وكان عليه انتظار عقود. وعندما بدأ يجد فضاء له في ساحة الإبداع الفني العربي، غابت اللوحة التاريخية. ولا نعثر سوى على إبداعات قليلة جدا لها ارتباط بمواضيع التاريخ في دول عربية رائدة في الفن التشكيلي مثل المغرب ومصر والعراق. فقد تأثر التشكيليون العرب بالمدارس الفنية الجديدة مثل الانطباعية والوحشية والتجريد، ولم ينبهروا بالواقعية كمدرسة، ولم يهتموا بالأحداث التاريخية. ويسعفنا علم النفس في تفسير هذه الظاهرة، فقد تعامل المفكرون والمبدعون العرب بنوع من الازدراء مع تاريخهم على ضوء التخلف الذي كان يعاني منه العالم العربي، وتطلع الجميع إلى الاستلهام من ثقافة الغرب، وهناك من استفاد بنوع من الإبداع والرقي، وهناك من سقط في التقليد الأعمى. ويوجد عنصر آخر مسكوت عنه، وهو مزدوج، إذ يتعين الإقرار بمحدودية الخيال الإبداعي لدينا كفنانين، الأغلبية لا يمكنه تصوير لوحة ضخمة أو متوسطة الحجم تمثل مشهدا من التاريخ العربي، بكل المكونات البشرية والديكور وقتها. ونعترف بعجز أغلب الفنانين العرب عن إنجاز لوحة واقعية وفق مقاييس الفن الواقعي، بسبب ضعف التكوين في الرسم، لهذا تتعاطى الأغلبية من الفنانين، ومن بالمناسبة لم يدرس الفن، للتجريد للتغطية على هذا العجز، على الرغم من الجدل الذي قد يثيره هذا الحكم على المدرسة التجريدية في العالم العربي.
حاول الإبداع الأدبي ملامسة جميع المدارس من رواية تاريخية وواقعية والخيال العملي، وإن كانت الواقعية تطغى على الباقي، ولم ينجح التشكيل في ملامسة جميع المدارس بسبب المسيرة القصيرة للتشكيل التي لا تتعدى بالكاد القرن، وإن كانت انطلاقتها الحقيقية حتى عقد الستينيات، وبهذا تبقى اللوحة التشكيلية العربية تنتظر مبدعين يخلدون الأحداث التاريخية الكبرى لونا وصباغة.
وقد لا نعود إلى الغرب كمرجع، فتاريخنا البعيد مليء بنماذج حية، فحضارات العراق القديمة مثل السومرية خلدت عبر أعمال نحت أحداثا تاريخية كبرى، وأبدع الشعب المصري إبان الفراعنة في الرسوم التي تركها على الجدران. وكلها تشكل إطارا توجيهيا لاستنبات همم الإبداع التشكيلي عند الفنانين العرب متى استندوا إليها في ترسيخ الممارسة التشكيلية لديهم.
العجز في الإبداع يفسر غياب اللوحة التشكيلية التاريخية عند العرب/نادية بولعيش
وحة «الحرية منار الشعب» لأوجين دي لكروا