بعد اعتقال الفريق سامي عنان رئيس هيئة أركان الجيش المِصري السَّابِق، والتحقيق مَعه بتُهمة التحريض على القوّات المُسلّحة، ومُخالفة القانون العَسكري وارتكاب جرائِم، باتَ واضِحًا أن الانتخابات الرئاسيّة المُقرّرة في شهر آذار (مارس) المُقبِل باتت أقربْ إلى “الاستفتاءات” التي سادَت لأكثر من رُبع قَرن في زَمن الرئيس محمد حسني مبارك، وكُل مَن سَبقوه في الحُكم مُنذ إطاحة الحُكم المَلكي.
المُؤسّسة العَسكريّة المِصريّة الحاكِم الفِعلي لمِصر، لا تُؤمِن بالديمقراطيّة والانتخاب الشعبي الحُر، مِثل كل المُؤسّسات المُماثلة الأُخرى، فقَد أخطأت مرّة، وجاءت النّتائج صادِمة، بفَوز الدكتور محمد مرسي، وهَزيمة مُرشّحها المُفضّل الفريق أحمد شفيق، ولهذا لم يَبقَ الرئيس مرسي في الحُكم إلا عامًا واحِدًا، كان عامٌ مَليئاً بالاضطرابات، وانتهى نِهايةً دَمويّة.
سِتّة مُرشّحين فَهِموا الرّسالة ومَضمونِها جيّدًا وقرّروا الانسحاب من سِباق انتخابات الرئاسة أو خَوضِه مُبكّرًا، أبرزهم الفريق أحمد شفيق، رئيس الوزراء والمُرشّح الأسبق للرئاسة، واللواء مراد موافي، مدير المُخابرات الحربيّة السابق، الذي اعتزل السياسيّة واعتكف في مَنزِله، في تَوبةٍ نَصوح، ثم النائب السابق محمد أنور السادات، رئيس حزب الإصلاح والتنمية الذي آثر السّلامة، وكان أسرع المُنسَحبين السيد حمدين صباحي الذي ابتعد عن الأضواء، أمّا السادس وهو المحامي خالد علي، فما زالَ يُصارع على أمل البَقاء حتى اللّحظةِ الأخيرة، وانسحابه غير مُستبعد، حتى لا يَتحوّل دَوره إلى دَور “الكومبارس″ أو “المُحلّل” على غِرار ما فَعل السيد الصباحي في الانتخابات السَّابقة، حسب رأي الكَثيرين.
الرئيس عبد الفتاح السيسي لن يَجد مُرشّحًا يَجرؤ على مُنافسته، ولهذا قد يَفوز بـ”التزكية”، أو “البَيعة” في نِهاية المطاف، تمامًا مِثل الأنظمة الخليجيّة المُتحالف مَعها، وتحت عُنوان رئيسي هو الحِفاظ على الاستقرار، ومَنع انهيار الدولة المِصريّة، وتَجنّب ما حَدث في سورية وليبيا واليمن من فَوضى دَمويّة.
***
المُؤسّسة العَسكريّة المِصريّة باعتقالها للفريق عنان وتَجريمه، أكّدت مُبايعتها للرئيس السيسي رئيسًا لفَترة ثانية، وربّما مَدى الحياة، أُسوةً بكل الرؤساء الذين سَبقوه وخَرجوا من رَحِمها، والاستثناء هو الرئيس مرسي، ولم يَخرجوا من الحُكم إلا إلى القَبر، أو حافّته، والاستثناء الوحيد كان الرئيس مبارك.
نَستغرب كيف عَجِز الفريق عنان عن فهم استراتيجيّة هذهِ المُؤسّسة وقَبضَتِها القويّة على الحُكم وهو ابنها، بل وأحد أبرز القِياديين فيها، بإقدامه على تَحدّيها والترشّح في انتخابات الرئاسة ضِد رجلها المُفضّل، أي الرئيس السيسي، اللهم إلا إذا حَصل على ضُوءٍ أخضر في جَناح قويّ فيها، وهذا غَير مُستَبعد، وقد تَكشفه الأيّام المُقبلة إذا كانت الشائعات حَول صِراع الأجنحة صحيحة، وهو أمر مَوضع شَكْ.
كثيرون اعتقدوا أن نُزول الفريق عنان إلى مَيدان المُنافسة كان واحِدًا من اثنين، إمّا أنّه “مَسرحيّة” جَرى إعداد فَصولها بعِناية فائِقة لإضفاء حالةً من الحرارة والإثارة على انتخابات الرئاسة التي يَتعاطى مَعها الشارع المِصري بِفُتور مَلحوظ، وهؤلاء يُؤمنون بنظريّة المُؤامرة، أو أن تكون المُؤسّسة العَسكريّة قَرّرت الإطاحة بالرئيس السيسي، واستبدالِه بالفَريق أحد رِجال عهد الرئيس مبارك لإعادة الحياة إلى العمليّة الديمقراطيّة التي فَقدت بَريقها، واختيار إدارة أفضل لإخراج البِلاد من أزماتِها الاقتصاديّة والأمنيّة المُتفاقِمة.
اعتقال الفريق عنان أكّد أن ترشّحه لم يَكن “مَسرحيّة”، وإنّما مُغامرة غير مَحسوبة، لم تَدُم أكثر من ثلاثة أيّام، فالرّجل تَبنّى أسلوبًا مُتحدّيًا، واخترق الكَثير من الخُطوط الحُمر عِندما تَحدّث بِلُغةٍ يَفهمها الشّارع بحَديثه عن الفَساد والغَلاء الفاحِش، والإصلاح الديمقراطي، واحترام حُقوق الإنسان، واختيار شَخصيّتين مَدنيّتين من بَينهما الدكتور هشام جنينه، الرئيس السّابق للجِهاز المَركزي للمُحاسبات، المَعروف بصَلابته ونَظافة يَده وشَراسَتِه في مُكافحة الفَساد، وتَجرّأ على مُطالبة مُؤسّسات الدّولة العَسكريّة والمدنيّة الوقوف على الحِياد، وكأنّه يَعيش في السويد، وليس في دولةٍ تَحكُم بقانون الطوارئ، وتَعهّد بإنقاذ الدّولة من الانهيار.
قِيادات مَحسوبة على حركة “الإخوان المُسلمين” سارعت بالتّرحيب بالفريق عنان، ورَحّبت بتَرشيحه، وأعربت عن استعدادِها لدَعمِه، على أمل أن يُؤدّي فَوزه إلى مُصالحة وطنيّة، والإفراج عن المُعتقلين، وتَنفيس حالة الاحتقان التي تَعيشها البِلاد، وذَهب الأمر بالبَعض إلى التّرويج لنَظريّة التّداول الدّيمقراطي للسّلطة بطريقةٍ سلميّةٍ تَحت خَيمة مُؤسّسة الجيش، وهذا أمرٌ محمودٌ في رأيهم رَغم بعض التحفّظات هُنا وهُناك.
لا نَعرف ما إذا كان هذا التّرحيب الإخواني الذي جاءَ ليس حُبًّا بالفريق عنان، إنّما كُرهًا بالمشير السيسي، قد سَرّع بالإطاحة بالأول، واختصر مُدّة تَرشيحه في أيام معدودة، ولكن الأمر المُؤكّد أن هذا التأييد ساهَم بدَور صَغير أو كبير في التحرّك السّريع الحاسِم للمُؤسّسة العَسكريّة باعتقالِه، تَجنّبًا للهَدف المَخفي للحَركة في إشعالِ نارِ الخِلاف في وَسطْ هذهِ المُؤسّسة التي أطاحت بحُكمِهم.
كما أنّنا لا نَعرف أيضًا كيف سَتكون ردّة فِعل الشّارع المِصري تُجاه هذه التطوّرات التي تتوارد فُصولها أمامه، ولكن ما نَعرفه أن أولويّات هذا الشّعب، مِثل مُعظم الشُّعوب العَربيّة الأُخرى، وبَعد سَبع سَنوات عِجاف من المُعاناة، لم تَعُد الديمقراطيّة والحُريّات والعَدالة الاجتماعيّة تتربّع على قِمّتها، وباتَ كُل ما يَهمّه الآن هو كيفيّة تَوفير لُقمَة العَيش لأطفالِه في ظِل الغَلاء الفاحِش، وارتفاع الأسعار ومُعدّلات البِطالة وانهيار الخَدمات العامّة.
الحُكومة، ومِن خِلال إعلامها القويّ، نَجحت في “تَخدير” هذا الشّعب، عبر إقناعِه بأنّ الاستقرار السِّياسيّ والأمنيّ هو الطّريق الأقصر لتَحسين الاقتصاد وظُروفِه المَعيشيّة بالتّالي، ولهذا عاد إلى اللامُبالاة، وتَحلّى بفَضيلتيّ الصّبر والتحمّل، بَعد خَيبة أملِه الكُبرى من نتائِج ثَورتِه وتبخّر كل شِعاراتِها البرّاقة والمُحقّة في الوَقت نَفسِه.
الفريق عنان ألقى صَخرةً كَبيرة في بِركة التّعايش والصّبر الشعبيّة المِصريّة الرّاكِدة مع المُعاناة، والغَلاء، وشَبح الجُوع، ولكن ارتدادات صَخرته هذهِ جَرى تَطويقها ووأدها بِسُرعة قِياسيّة، ومن قِبل زُملائِه السّابقين في المَجلس العَسكريّ، الأمر الذي يُؤكّد مَدى خُطورة خَطوته المُتحدّية هذه، في نَظر مُعارِضيه.
***
النظريّة المُجرّبة التي يَنساها الكثيرون داخِل مِصر وخارِجها، أن الديمقراطيّة والعَسكر مِثل الماء والزيت لا يُمكِن خَلطُهما معًا، فالزّيت يَظل زيتًا، والماء يَظلْ ماءً.
الشعب المِصري مِثل الفيل، بَطيء الحَركة، وثوراته قليلة ونادرة، ولكنّه إذا بَدأ في الحَركة فإنّها تتسارع بحَيث لا يُمكن وَقفها، وتَحطيم كُل شَيء أمامها، ولا يَغيب عن ذِهننا ما فَعلته ثورة 25 يناير التي أشعل فَتيلها (ذِكراها السّابعة بَعد يَومين)، وأطاحت واحِدًا من أكثر الأنظمةِ العَربيّة دِيكتاتوريّة، ولكن لا تُوجد أي مُؤشّرات تُوحي بأنّ هذا الشّعب المُنهَك، بَدأ في التّململ وبالتّالي التحرّك.
الرئيس السيسي لم يَكُن يَضربْ بالرّمل، ويَقرأ الفِنجان، عندما قال يوم السبت الماضي “أنّه سيَمنع أي فاسِد من الاقتراب من كُرسي الحُكم.. أنا عارف الفاسدين مين.. أنا عارف إنه حرامي وفاسد ولن أسيبه.. مِصر أعز وأشرف من أن يتولّاها فاسدون”، الرئيس السيسي كان يُوجّه رِسالةً واضِحة إلى خَصمِه الفَريق عنان الذي يَعتقد أنّه أوْلى مِنه بمَنصب رِئاسة الجمهوريّة، ويُعرَف السيناريو الذي وَضعته المُؤسّسة العَسكريّة في حالةِ تَرشّح هذا الخَصم، ولكنّه، أي الفَريق عنان، لم يَفهم أو لم يَرد أن يَفهمْ هذه الرّسالة.
سِتّة مُرشَّحين انْسَحبوا، اثنان مِنهم انتهى بِهما الأمر خَلف القُضبان، الفريق عنان والعقيد أحمد قنصوة، والباقون قَيد الإقامة الجَبريّة.. فمَن يَجرؤ على تَرشيح نَفسه بَعد اليَوْمْ؟ نحن في الانتظار.