حمل الحوار الذي أجرته المجلة الأمريكية الرزينة “ذي أتلانتيك” مع الرئيس باراك أوباما الأسبوع الماضي “مفاجآت” للكثيرين خاصة من العرب حول انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتغيير وجهتها السياسية نحو آسيا وأمريكا اللاتينية والقارة الإفريقية بدون شمالها (المغرب العربي-الأمازيغي). لكن موقف باراك أوباما في العمق لا يعتبر جديدا بل كانت عناوينه حاضرة منذ سنوات وسط هياكل الإدارية الأمريكية وسيستمر مع الرئيس المقبل.
والحوار غني للغاية، ولم يحمل آراء بقدر ما حمل معطيات استراتيجية عن عمق الرؤية الأمريكية الحالية والمستقبلية للوضع السياسي في العالم. أسهب باراك أوباما في تبرير عدم تدخله عسكريا في سوريا ضد نظام بشار الأسد، وبسط رؤيته للشرق الأوسط. لم يتردد في اتهام السعودية بنشر التطرف في العالم بمذهبها الوهابي، ولم تنج دول خليجية أخرى من الاتهام نفسه.
وفي الوقت ذاته، لم يتردد في تبرئة إيران نسبيا من التطرف، ولكنه حمّل كل من طهران والرياض مسؤولية خوض حرب عقائدية عبر أطراف ثالثة في الشرق الأوسط ومسرحها لبنان والعراق واليمن وسوريا. وكشف أوباما عن معطى رئيسي وهو الابتعاد عن مشاكل العالم العربي-الإسلامي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
في هذه الزاوية من جريدة القدس العربي، نشر صاحب هذا المقال مقالا يوم 12 أكتوبر 2015 تحت عنوان “واشنطن لم تفقد هيبتها والعرب يعتقدون باستمرار الشرق الأوسط مركزا للعالم”، استعرضنا فيه التوجهات القادمة للولايات المتحدة للحفاظ على نفسها كقوة عالمية والرهان على المناطق الحيوية لها مستقبلا. ولمعرفة توجه الولايات المتحدة، هناك معايير هامة تتبعها منذ عقود وهي:
تقارير مجلس الأمن القومي بما فيها السرية التي يتسرب منها القليل، التمركز التدريجي للجيش في منطقة معينة، الاستثمارات المالية للشركات العالمية، مصادر الطاقة، الأسواق المستقبلية، والتوجهات التي تغلب على مراكز الدراسات.
ومنذ سنوات، بدأ تمركز الجيش الأمريكي في منطقة الهادي وأمريكا اللاتينية، حيث جرى توجيه عدد من حاملات الطائرات الى المنطقة بل والاستعادة بالعمل بالأسطول الرابع في أمريكا اللاتينية والتقليل من السفن الحربية في الخليج العربي والمتوسط.
في الوقت ذاته، عادت الاستثمارات الأمريكية لتتدفق أكثر على أمريكا اللاتينية ومنطقة الهادي، وهذه الاستثمارات تتطلب حضورا سياسيا وعسكريا لحمايتها رغم استقلالية القرار ووحدة بعض المناطق ومنها أمريكا اللاتينية.
تحررت الولايات المتحدة من الارتهان الى منطقة جغرافية معينة بسبب مصادر الطاقة، وخاصة الشرق الأوسط، فهذه المنطقة الأخيرة لا تمثل استراتيجيا ما كانت تمثله لواشنطن منذ الأربعينات الى نهاية القرن لاسيما بعدما بدأت الولايات المتحدة في تصدير النفط وكذلك أمام مستقبل الطاقات الجديدة والبديلة.
ويوجد معيار مهم للغاية لفهم توجه الولايات المتحدة مستقبلا ويتجلى في أجندة مراكز التفكير الاستراتيجي التي تنكب على دراسة منطقة الهادي وأمريكا اللاتينية وإعادة الارتباط بأوروبا في إطار تعزيز منظمومة “الغرب” مجددا ومن أبرز عناوينها المساعي الرامية الى التوصل الى اتفاقية التبادل الحر بين الطرفين.
ويعتبر الاقتصاد بوصلة رئيسية لسياسة الولايات المتحدة مستقبلا، والحديث عن الاقتصاد هو الحديث عن الاستهلاك، وهو الحديث عن المنطقة التي ستتعزز فيها الطبقة الغنية والمتوسطية في العالم، والسؤال: أين توجد هذه المنطقة؟ والجواب هو في منطقة المحيط الهادي بضفيته، فالصين تسير نحو أكبر نسبة من الأغنياء وستتوفر على أكبر طبقة متوسطة في تاريخ البشرة في ظرف عقدين. وتدريجيا، بدأت الصين تتحول الى أكبر سوق للمنتوجات الأمريكية.
في الوقت ذاته، لم يعتد المحللون العرب على الانتباه الى تقارير مجلس الأمن القومي، يكتفون بقراءة تقارير ظرفية حول نزاعات تحضر في الأجندة الدولية مثل حروب الشرق الأوسط ولكنهم يتناسون التقارير الاستراتيجية لشعبة أمريكا اللاتينية وشعبة آسيا في هذا المجلس والتي تحمل معطيات ومخططات للعقود المقبلة. وتتضمن دراسات شعبة آسيا منذ التسعينات التوجه الحالي للولايات المتحدة، لكن لا أحد انتبه.
ويحدث أحيانا صدور تصريحات هامة من مسؤولين حاليين أو سابقين دون أن تلفت انتباه الباحث والمحلل والاعلامي العربي لمعرفة خارطة الطريق المستقبلية. ومنها تلك التي صدرت عن مدير المخابرات الأمريكية السابق الجنرال دفيد بيتروس الأسبوع الماضي في المكسيك بحديثه عن الاتحاد الذي سيتعاظم بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا بكثلة بشرية تتجاوز 500 مليون وقرابة 20 ألف مليار دور من الإنتاج القومي الخام ليكون المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي خاصة في علاقته بمنطقة الهادي وأمريكا اللاتينية.
العالم العربي لم يعد يشكل موضوعا ذو استراتيجية بالغة في الأجندة الأمريكية مستقبلا، لم تعد محتاجة الى موارده الطاقية، ويبقى سوقا صغيرة مقارنة مع مناطق أخرى، والمنطقة حبلى بالمشاكل الاثنية والدينية والسياسية. وعليه لن تغامر واشنطن بحرب جديدة على شاكلة حرب 2003 التي اعتبرها الكثير من المسؤولين العسكريين بالخطئ الفادح. وآخر هؤلاء المدير السابق للمخابرات العسكرية الأمريكية ما بين 2012-2014 الجنرال مايكل فلاين الذي قال أن إدارة جورج بوش مسؤولة عن انهيار الاستقرار في الشرق الأوسط، ونصح الرئيس أوباما بعدم خوض حرب جديدة في الشرق الأوسط. بينما كانت إدارة واشنطن تعتبر حرب 1991 ضد غزو الكويت هامة لتفادي تقويض النظام العالمي الجديد الذي كانت ترغب في إقامته، لهذا طردت القوات العراقية من الكويت وانسحبت بدون احتلال العراق.
ويأتي حوار باراك أوباما مع مجلة “ذي أتلنتيك” ليلقي الضوء على هذه التوجهات مجددا وليقول للعرب: أصبحتم غير مهمين في الأجندة الأمريكية الجديدة!