الفن التشكيلي الاسباني غني الإبداع وممتد زمنيا. أسماء مثل غويا وبيلاسكيث وبيكاسو وسالفادور دالي هي حلقات هامة في تاريخ الفن التشكيلي العالمي. والرسم في اسبانيا هو تقليد مقدس وراسخ منذ قرون، جذوره تنطلق من رسومات الكنائس وتغطي مختلف التيارات والمدارس من واقعية وسوريالية وتكعيبية إلى رسومات غرافيتي في شوارع المدن الكبرى مثل برشلونة ومدريد.
عراقة التشكيل الاسباني تنافس الإبداع الأدبي في معالجة ورصد الأحداث التاريخية والاجتماعية التي مرت بها اسبانيا عبر حقبها الزمنية. ولا تقل براعة فرشاة بيلاسكيث في توظيفه للخطوط والألوان في لوحاته في رسم اسبانيا القرن السابع عشر عن كلمات وتعابير سيرفانتيس في «دون كيخوتي دي لمنشا» إبان الحقبة الزمنية نفسها. يشتركان في قوة التعبير والوصف، وهنا نحن أمام اللون والخط مقابل الكلمة.
ويقول الناقد فيرناندو غارسيا دي كورثاسار في كتابه «تاريخ اسبانيا انطلاقا من الفن» أن التشكيليين الاسبان برعوا في رسم وتصوير تاريخ اسبانيا متفوقين على باقي الأمم. وقد نجد مثالا للاسبان في مقارنتهم لنظرائهم الإيطاليين.
ومن ضمن الحقب التاريخية التي استرعت الرسامين الاسبان، هناك الأندلس بحضارتها الشامخة. وكما انتشرت الروايات التي تتخذ من فضاءات الأندلس وشخصياتها وأحداثها التاريخية موضوعا للكتابة والإبداع، ولقيت الحضارة العربية في الأندلس اهتماما وسط المستشرقين، بالموازاة زمنيا وموضوعاتيا اهتم التشكيل بالأندلس والموريسكيين.
وانشغل التشكيليون الاسبان بموضوع الموريسكيين والمسلمين منذ قرون، والاهتمام مستمر حتى الآن. فقوة الالهام التي يمارسها الموضوع الموريسكي جذابة. وهكذا، فالمتأمل في تاريخ التشكيل الاسباني سيجد الحضور الطاغي لموضوع الموريــســكيين، سواء الأحداث أو المآثر الــعربية الخالدة مثل قصر الحمراء.
وكما ظهر الأدب الاسباني مع رومانسيرو، وهي الأشعار التي كانت تخلد انتصار المسيحيين على المسلمين في حروب الاسترداد، وأغلبها مجهول المصدر، فالتشكيل الاسباني ظهر مع الرسومات التي احتضنتها الكنائس وما أكثرها، وعكست هذه الانتصارات نفسها، وكان موضوعها حروب الاسترداد كذلك. فقد لعبت الكنيسة دورا هاما في انتشار الرسومات الدينية التي ركزت على المواجهة بين الإسلام والمسيحية.
وكل حدث تاريخي كبير بشأن التواجد الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية عكسته فنيا فرشاة الفنانين، وبهذا نجد كل معارك الاسترداد وقد جرى تصويرها تشكيليا. وإذا كان مؤرخو اسبانيا يعتبرون سقوط غرناطة بداية تأسيس الأمة الاسبانية، فعشرات اللوحات التشكيلية تخلد الحدث، ولكن لوحة «استسلام غرناطة» لفرانسيسكو باديا في القرن التاسع عشر تعد الأشهر.
وأشهر اللوحات التي رسمت طرد الموريسكيين هي التي أنجزها رسامون من فالنسيا سنتي 1612 و1613 بطلب من ملك اسبانيا فيلبي الثالث الذي طرد الموريسكيين سنة 1609. والرسامون هم فيسنتي ميستري وفرانسيسكو بيرالتا ويري أوروميغ وخيرونيمو إسبينوسا، كانوا شهودا على عمليات الطرد من موانئ فالنسيا وأليكانتي نحو المغرب والجزائر، وهو ما يجعل لوحاتهم التشكيلية واقعية في الدقة في رسم الفضاء العام والشخصيات والحدث التاريخي.
ويعد القرن التاسع عشر حقبة الاهتمام بموضوع الموريسكيين في اسبانيا، قد تحررت البلاد من محاكم التفتيش التي طالت كثيرا، وبدأت نظرة الاسبان من فنانين وأدباء تتغير نحو الإرث الأندلسي. ونقف عند لوحات مانويل غوميث مورينو غونثالث بعنوان «طرد الموريسكيين» وأخرى «مغادرة أمراء بني نصر قصر الحمراء»، وتقبض فرشاته على أدق تفاصيل الفضاءات، أبهة القصور التي تتناقض ومشاعر الحزن على الشخصيات في اللوحة الأخيرة، ونجح في رسم آلام الأمهات عندما كان الجنود الاسبان يفصلون بين الأمهات والأبناء الصغار للاحتفاظ بهم في اسبانيا وطرد البالغين نحو المغرب في اللوحة الأولى.
بعد حروب الاسترداد، اهتم التشكيل بحياة المسلمين في الأندلس، وعكست لوحات شهيرة مجالس العلماء. وأرّخ الفنان ديونوسيو بيكسيراس فيرداغير في نهاية القرن التاسع عشر الجلسات العلمية في قرطبة في لوحة «حضارة خلافة قرطبة في عهد عبد الرحمان الثالث». لوحة تتميز بتوزيع فضاء اللوحة ذو الألوان الفاتحة وتأتيتها بشخصيات عملية ومطربات وأدوات موسيقية وعلمية وكتب. لوحة تختزل أوج الحضارة الأندلسية في هذه الديار الأوروبية وقد تكون أحسن معبر عن هذه الحضارة فنيا حتى الآن.
ولا تقل لوحات ميغيل فيكو هيرنانديث قيمة جمالية وتاريخية في تاريخ التشكيل الاسباني المهتم بالحضارة الأندلسية، فقد ترك هذا الرسام المنتمي إلى القرن التاسع عشر وبداية العشرين أعمالا إبداعية استلهمها من الهندسة المعمارية لقصر الحمراء في غرناطة.
ويعمد بعض النقاد إلى تصنيف التشكيل الاسباني ذو المضمون الأندلسي ضمن الاستشراق التشكيلي، ونختلف في هذا التصنيف، فالرسامون الاسبان لم يتخيلوا أو يختلقوا أو انبهروا بالشرق خلال زيارة بعضهم للعالم الإسلامي كما حدث مع الفنانين الفرنسيين والألمان والانكليز، بل أن الاسبان رسموا أحداثا تاريخية واستلهموا مواضيع لوحاتهم من التاريخ العميق لاسبانيا، والحضارة الأندلسية هي جزء منه بفضل سلطة سياسية امتدت إلى ثمانية قرون. التشكيل الاسباني المهتم بالأندلس هو إبداع يرتبط بالتاريخ الاسباني وأحداثه أكثر منه مظهرا من مظاهر الاستشراق.
الأندلس مصدر إلهام وإبهار، تحتل فصلاً رئيسياً في تاريخ التشكيل الإسباني
لوحة «حضارة خلافة قرطبة في عهد عبد الرحمان الثالث»/ديونوسيو بيكسيراس