«التاريخ السري للحرب الكيماوية ضد منطقة الريف وجبالة 1921-1927» عنوان الكتاب الجديد للمؤرخ المغربي الدكتور مصطفى المرون، والذي يعالج فيه موضوعا شائكا ظل لعقود طي الكتمان، وهو المتعلق باستعمال اسبانيا، وبدعم من دول أوروبية، أسلحة كيماوية محرمة دوليا ضد المغاربة في العشرينات من القرن الماضي للقضاء على ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي. كتاب بقدر ما يلقي الضوء على ملف يلفه الكثير من الصمت المتعمد، بقدر ما يعمل على تحرير الكتابة التاريخية حول مواضيع مغربية بقيت مقتصرة على الغربيين فقط. وصدور الكتاب يتزامن والجدل السياسي والتاريخي القائم حول هذه الحرب التي تعرض لها المغرب، حيث تطالب قوى سياسية وجمعيات غير حكومية في المغرب واسبانيا بفتح الملف بكل شجاعة وما يترتب عنه من اعتذار وتعويض.
يقول المؤرخ في كتابه الصادر عن دار القلم في الرباط في بداية السنة الجارية: «انطلق مشروع كتاب «التاريخ السري للحرب الكيماوية ضد منطقة الريف وجبالة (1921 ـ 1927)»، منذ 15 سنة، عندما كنت أعمل كباحث مساعد بمركز الدراسات الإسبانية، التابع لجامعة لندن، والذي يرأسه المؤرخ الإنكليزي الشهير بول بريستون، ومساعده في الإدارة، المؤرخ الإنكليزي سيباستيان بالفور. وكان المركز آنذاك يضم ثلة من المؤرخين والباحثين العالميين من مختلف الدول».
ويقوم المرون بعرض وتنظيم مضمون الكتاب في أربعة فصول تتضمن عناوين فرعية كثيرة، وهذه الفصول هي:
الفصل الأول: «الريف: الكابوس الذي أرق اسبانيا»، حيث يعالج حرب اسبانيا في الريف طيلة عقود من الزمن وكانت أبرزها معركة أنوال سنة 1921، التي يصنفها المؤرخون بالكارثة التي تتجاوز الهزيمة الحربية في التاريخ العسكري الإسباني. وكان الجيش الإسباني المسلح جيدا قد انهــزم في مواجهة المقاتلين المغاربة تحت قيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي ضمن حروب التحرير ومواجهة المستعمر الأوروبي.
وأمام فشل إسبانيا في المواجهات العسكرية الكلاسيكية، يستعرض المؤرخ لجوء إسبانيا إلى الغازات السامة أو السلاح الكيماوي في مواجهة ثورة الخطابي. ويعالج في عناوين فرعية من هذا الفصل استعمال الغازات السامة لأول مرة في الحرب العالمية الأولى، ثم رهان المؤسسة العسكرية الإسبانية على استيراد الغازات السامة من ألمانيا بعد تفكيك ترسانتها الكيماوية وفق معاهدة فرساي لسنة 1919، وكيفية إنتاجه في مصانع سرية أنشئت في كل من إسبانيا وشمال المغرب، ولاحقا الاسم السري الذي أطلق على هذا السلاح وهو قنابل إكس. ويؤكد الكاتب أن هذه الطريقة كانت الوحيدة لكي تحقق اسبانيا وبدعم من فرنسا انتصارا على الثورة الريفية.
الفصل الثاني: «السم الذي نزل من السماء»، حيث يحدد المرون الرقعة الجغرافية التي كانت مسرحا للقصف وهي منطقة جبالة شمال غرب المغرب، ومنطقة الريف في الجهة المقابلة شمالا كذلك. ويتطرق إلى تقنيات قصف الغازات السامة التي انطلقت أول الأمر بواسطة قطع المدفعية، لتتطور لاحقا إلى استخدام الطيران في عمليات القصف الجوي لإلحاق أكبر نسبة من الخسائر ضمن صفوف المقاتلين والسكان المدنيين. وهنا تجدر الإشارة إلى أنها المرة الأولى في تاريخ الحروب يتم استخدام الطيران في عمليات إلقاء الغازات السامة.
ويتوقف الكتاب كثيرا عند مشاركة السرب الجوي الأمريكي «لافاييت» في قصف شمال المغرب، وهذه المشاركة جعلت حرب الريف تأخذ بعدا دوليا ولم تعد قضية ثنائية بين المغرب وإسبانيا، وخاصة بعد قيام قوات فرنسية بالمساهمة في حصار الريفيين للقضاء على ثورة الخطابي.
الفصل الثالث: «حرب كيماوية وقوانين دولية»، يعالج في البدء كيف انقلبت الغازات السامة ضد الجيش الإسباني نفسه خلال الاستعمال أو جراء التخزين بفعل رداءة الوقاية، وضعف الاستعمال بحكم عدم خبرة الجيش الإسباني في استخدام هذا السلاح الكيماوي المتطور.
وفي الشطر الثاني من هذا الفصل، يتطرق إلى القوانين الدولية، معلقا بتعبير «قوانين دولية: حبر على ورق»، في استعراض عدم احترام الأمم الكبرى لاتفاقيات حظر هذه الأسلحة الخطيرة المحظورة دوليا. إذ في هذا السياق، يتعمق الكتاب في الكشف عن تواطؤ المجتمع الدولي بصمته، أو مباركته استعمال هذه الأسلحة في شمال المغرب ضد ثورة الخطابي. وكان هذا الأخير قد قام بحملة دولية للاحتجاج على استخدام إسبانيا لأسلحة محرمة دوليا، لكن ردة فعله كانت مجرد صيحة في واد في مجتمع غربي كان لا ينتقد استعمال مثل هذه الأسلحة ضد المناطق والشعوب التي كان يصفها بغير المتحضرة.
ونظرا للتأثيرات الممتدة زمنيا لمثل هذه الأسلحة، يتطرق مصطفى المرون، وهو المؤرخ خريج جامعة غرناطة بإسبانيا، إلى الانعكاسات الصحية لاستخدام الأسلحة الكيماوية على السكان في شمال المغرب. ويعتبر العنوان الذي أعطاه للفصل الرابع دالا ورمزيا: «الموت الذي لاحق الأجيال»، إذ يصف المؤرخ في هذا الصدد، هذه الغازات الكيماوية بالمبيدات للإنسان والحيوان والبيئة. فمصطلح «المبيدات» حاول من خلاله المؤلف أن يرمز إلى أن إسبانيا تعاملت مع سكان منطقة الريف وجبالة كحشرات، وليس كبشر، وبالتالي كانت هذه الغازات السامة حرب إبادة حقيقية أتت على الإنسان، والحيوان، والبيئة.
ويثني المؤرخ البريطاني سيباستيان بالفور، وهو أستاذ التعليم العالي في جامعة لندن للعلوم السياسية والاقتصادية على الكتاب، ويعتبره مرجعا هاما لاطلاع على الحرب الكيماوية ضد شمال المغرب بواسطة اللغة العربية، لأن الكتاب هو أول عمل حول الموضوع يصدر بهذه اللغة. وفي هذا الصدد يقول المؤرخ الإنكليزي في التقديم «إن عمل المؤرخ المغربي مصطفى المرون هذا، ضروري بالنسبة للذين يريدون الإطلاع، بواسطة اللغة العربية، على أسرار الحرب الكيماوية في المغرب. فقد تعرفت على المؤلف، حين تعاونا خلال سنوات عدة، في إجراء أبحاث ميدانية وأكاديمية حول موضوع الحروب الكولونيالية، ومشاركة المجندين المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية، ومن ثم، فإن ما دفعني إلى كتابة هذا التقديم، ليس فقط الصداقة التي جمعتني بالمؤلف منذ تلك الفترة، بل جودة عمله كمؤرخ، والجهود التي كرسها من أجل البحث في هذا التاريخ المجهول».
وقد كان المؤرخ البريطاني نفسه قد كشف الكثير من الحقائق حول استعمال الغازات السامة ضد الشعوب التي قاومت الاستعمار، خاصة فيما بين الحربين العالميتين، حيث تعرضت مناطق في ليبيا والعراق وأفغانستان والحبشة إلى القصف الكيماوي. وينشر في التقديم تصريح رئيس الحكومة البريطانية الشهير ونستون تشرشل سنة 1920، عندما كان يشغل منصب سكرتير الدولة للدفاع والجو في الحكومة البريطانية: «أنا موافق تماما على استعمال الغازات السامة ضد القبائل غير المتحضرة».
وبدورها، كتبت المؤرخة الإسبانية ماريا روسا دي مادرياغا في تقديم الكتاب «بعد سنين عديدة من الصمت واللامبالاة، فإن اعتراف إسبانيا بشكل علني باستخدامها للغازات السامة خلال حرب الريف، يعتبر في حد ذاته إقامة للعدالة، ورد اعتبار للحقيقة التاريخية، ومن ثم، فإنه إلى جانب الاعتراف العلني، تبقى مسألة إدانتها لمثل هكذا تصرف ضرورية، وأن أحسن وسيلة لجبر الضرر الجماعي الذي سببته إسبانيا للريفيين، حسب اعتقادي، هي الزيادة في قيمة المساعدات المخصصة لتنمية منطقة شمال المغرب».
ويعتبر كتاب المؤرخ مصطفى المرون هاما للغاية لأسباب متعددة:
في المقام الأول، قيمته الأكاديمية، حيث اعتمد على مراجع متعددة غربية ومغربية منها، ولجأ إلى الروايات الشفوية في عمل ميداني يعود إلى قرابة عقدين، بالتعاون مع المؤرخ البريطاني سيباستيان بالفور.
في المقام الثاني، هو أول كتاب تأريخي باللغة العربية عن هذا الموضوع الشائك، وبالتالي يقدم للقارئ المغربي والعربي عملا موقعا باسم مغربي، بعدما كانت مواضيع المغرب التاريخية وفي مجالات أخرى مقتصرة على المؤرخين والباحثين الغربيين، وأساسا المدرسة الفرنسية والإسبانية، وكذا الإنكليزية.
وفي المقام الثالث، يتزامن الكتاب والجدل السياسي والاجتماعي حول حرب الغازات السامة، حيث جعلت بعض القوى السياسية غير الكلاسيكية، وفعاليات المجتمع المدني في إسبانيا والمغرب، من حرب الغازات السامة موضوعا حاضرا في الأجندات السياسية والاجتماعية من خلال مبادرات ترمي إلى الاعتراف بالمأساة التي خلفتها الحرب والمطالبة بالتعويض المادي والإنصاف التاريخي. ويحدث هذا في ظل تفادي كل من الرباط ومدريد معالجة هذا الملف الشائك بشجاعة.
الدكتور مصطفى المرون: «التاريخ السري للحرب الكيماوية ضد منطقة الريف وجبالة 1921-1927»
دار القلم الرباط 2016
190 صفحة