للثقافة حظٌّ في تمثيل ما بالوُسع وصفُه بـ “الاستثناء المغربي”، ويحضرنا في هذا الصدد ما أصبح يُتعارَفُ عليه في الوسط الثقافي المغربي بالأدب الهِيسْبانُومغربي، ويُقصَدُ به ما غدا ظاهرةً حقيقيّةً شهِدَها المغرب، خصوصاً شمالَه الذي عاش الاستعمارَ الإسباني بين عامي 1912 و1956 في نسخة طريفة ومُلطَّفة ابتكرتْ لنفسها تسمية “نظام الحماية”.
ففي الوقت الذي استفردتْ فيه فرنسا بالمنطقة الوسطى، وسمَّتْها المنطقة السلطانية، وسَمَت إسبانيا ما استحوذتْ عليه في الشمال بالمنطقة الخليفية (نظراً لإقامة خليفَةِ سلطان البلاد بها ممثِّلاً للسلطة الشرعية)، إضافة إلى الصحراء.
لم يقتصر الوجود الاستعماري الإسباني على الهيمنة عسكرياً وإدارياً، بل عزَّزَه اقتصادياً وثقافياً أيضاً، فكانت حصيلةُ هذا الحضور الإسباني في شمال المغرب ظهورَ المسارح والمعاهد الموسيقية والجمعيات الثقافية والمجلات، والكُتب وعيدُها السنوي والمكتبات والمتاحف، وغيرها. وكانت من نتائجها أيضاً ظهور أدبٍ مكتوب باللغة الإسبانية موازٍ للأدب الإسباني في جغرافية ثقافية غيرِ إسبانية اللسان.
قد تكون وراءَ ظهور هذا الأدب الإسبانيِّ اللسان استعداداتٌ ثقافية أصْلُها عواملُ تاريخية تعود إلى الماضي المشترك بين الأندلس والمغرب، يُضاف إليها الاحتلال الإسباني المعروف بـ”الحماية”، الذي اتخذ لذاته طابَعاً تعايُشيّاً وتشارُكيّاً خاصاً، بخلاف ما كان يقع للمغاربة من قبل الفرنسيين في باقي بلاد المغرب الكبير.
لكنّ الأكيد هو أنّ تدريس اللغة الإسبانية باعتبارها لغة ثالثة في التعليم الثانوي المغربي، إضافةً إلى ظهور شُعَب اللغة الإسبانية بكليات آداب المغرب، زيادةً على هجرة الطلبة واليد العاملة إلى الجارة إسبانيا، ناهيك عن وجود ستة معاهد ثربانتيس بالمغرب (وهو أكبر عدد لهذه المعاهد خارج إسبانيا) كلُّ ذلك أسْهمَ في بروز كتابة أدبية إبداعية بالإسبانية في المغرب ميَّزتْهُ عن باقي العالَم العربي، بما في ذلك عن الأدب الهيسبانومغاربي، أي الذي يُدْرَجُ ضمنَه أيضاً مُبدِعون باللغة الإسبانية قلائلُ من الجزائر وتونس.
ويُمكن الذَّهاب إلى أنّ حاضنة الإبداع الأدبي الهيسبانومغربي تمثَّلتْ بالأساس في مجلَّتي “المعتمد” و”كتامة” وفي مطبوعات “اعتماد” التي نشرتْ إصداراتٍ شعرية لمغاربة وإسبان.
أثار وجود هذا الأدب إشكالاً في التسمية، وقد عالجَه الناقدُ المغربي الهيسباني إدريس الجبروني في مقال له بعنوان: “مكْرُ الأدب المغربي المكتوب بالقشتالية”، في معرض انتقاده لكِتاب “أنطولوجية الأدب المغربي بالقشتالية” الذي أصدره الكاتبان محمد شَقُّور وسِيرْخِيو ماثِيّاسْ، مُستنِداً إلى ما ذهب إليه المفكر المغربي عبد الله العروي في سياق انتقاده للأدب الفرنسي المكتوب في شمال أفريقيا، حين اعتبره أدباً عابراً ومتحوِّلاً وظرفياً، ذا فقر في التعبير، وأنه فرْعٌ جهوي ومحليّ لثقافة يوجَد مركزُها في مكان آخر.
ويَضعُنا الاختلاف في تسمية هذا الأدب أمام توصيفيْن على الأقل؛ هما: الأدب المغربي بالقشتالية، والأدب الإسباني المكتوب من قبل مغاربة، وأُضيفتْ تسميةٌ جديدة هي “الأدب الهيسبانومغاربي”، استقرَّ عليها “ملتقى غرناطة للكتّاب المغاربيين الهيسبان”، الذي انعقد يوميْ 18 و19 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، تحت شعار “الإسبانية جسرٌ للتواصل بين إسبانيا والمغرب الكبير”.
وباستثناء إدريس الجبروني الذي نشر قصائدَ، بدايةَ السبعينيات، في “جريدة إسبانيا” وفي مجلة “كاسا دي لاسْ أميريكاس” الكوبيّة، فإن مشكلة هذا الأدب تكمن في أنه لم يعرف استمرارية، ولو أن اللغة والأدب الإسبانيين كانت لهما شُعَبٌ في الجامعات المغربية، لأن الأخيرة لم تكن تستهدف سوى تكوين أساتذة في اللغة الإسبانية لتدريسها في الثانويات، وفي أحسن الأحوال لإنجاز بحوث أكاديمية ظلَّتْ حبيسة المكتبات الجامعية، ونُشرتْ بعضُها فصولاً مُجْتَزأةً في مجلات تلك الجامعات.
لقد توقَّفَ هذا الأدب عن الحضور نهايةَ الخمسينيات من القرن الماضي، لكنّه عادَ لينتعش في بداية التسعينيات، على الرَّغم من عدم اعتراف المؤسسة الثقافية في إسبانيا -مُمثَّلةً في دور نشرها الكُبرى- بهذا الإنتاج بنشرِه في سلسلاتها الشهيرة، ما دفع هؤلاء الكُتّاب إلى طبع أعمالهم على نفقتهم الخاصة، في أغلب الأحوال، على خلاف الأدب الفرانكوفوني المغربي الذي تتلقّفه دور النشر الكبرى في فرنسا، وتحتفي بها المؤسّسات الأدبية والإعلامية.
حالِياً، يجترح ممثِّلو هذه الكتابة الفريدة في المغرب الشعرَ والقصة والرواية، ولبعضهم الآن حضور في بعض الأنشطة الثقافية في إسبانيا، لكنه حضور لا يوازي ما كان لروادهم مثل عبد اللطيف الخطيب، ومحمد التِّمْسماني، وحكيم بن عزوز، ومحمد الصباغ، الذين اعتُرِف لهم بقيمة أعمالهم الإبداعية، والذين كانوا على صلة وثيقة بأدباء إسبانيا الكِبار، حتى إنهم كانوا ينشرون نصوصهم إلى جانبهم.
ثيرون نسبياً هم هؤلاء الهيسبانومغاربة؛ منهم من رحل كمحمد شَقور ومحمد الصيباري ومُحمد مامون طه، أما أهمُّهم في الوقت الحاضر مِمّن حقَّقوا حضوراً إبداعياً ملحوظاً، بل وتراكُماً في بعض الأحيان؛ فهم: محمد العشيري ومحمد بويسف الركاب وأحمد محمد مغارة وعبد الرحمان الفاتحي وعزيز التازي ومفيد عطيمو ومحمد أقلعي وسعيد الجديدي، إضافة إلى أسماء أخرى لها نصوص متفرّقة هنا وهناك كمحمد المساري ورشيدة الغرافي وليلى الغالي وخليل طريبق ونسرين بن العربي، ناهيك عن بعض الدارسين مثل عبد اللطيف الإمامي ومحمد اللعبي وأحمد الكَمون.
وعلى الرغم من عدم إدراك هذا الأدب القوةَ والمكانةَ التي أدركها الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية بأسمائه المغربية المعروفة كالطاهر بنجلون وإدريس الشرايبي وخير الدين وفؤاد العروي، وغيرهم، فإنّ الشيءَ الأكيدَ هو أنه قد لفتَ الانتباه إليه بدليل اهتمام بعض الأكاديميين به في الجامعة الأميركية مثلاً، كالباحث الأرجنتيني الأصل كريستيان رِشِّي Cristián Ricci الذي أصبح من المتخصّصين فيه، وخُوسي سارِيّا من إسبانيا الذي لا يفتأ يشجع مُبدعيه ويُنظّم ملتقيات خاصة بهذا الأدب، كان آخرها ذلك المؤتمر الذي عُقِدَ في غرناطة منذ شهرين، بتنظيم من جمعية كُتّاب إسبانيا -فرع الأندلس.