رحيل فاطمة المرنيسي.. خسارة للفكر ولقيم الحرية في العالم العربي

لا أحب الوداع  مُرغما ولا أحب الرحيل قهرا، فكيف بوداع الحياة ورحيل الموت.. !! أيها الموت.. أبق لنا قليلا من الذين اجتهدوا ونحترمهم.. نعيش معهم بحب، هذا القليل من الزمن الذي أبقيت لنا إن أبقيته.. !!…فاطمة المرنيسي تغادر كوكبنا.. تاركة النساء دون حُلم.. و الرجال دون عقل .. !! سندبادية من وراء الكلمات تَسْقُط… وابنة بَطُّوطة رَحَّالة وراء الأفكار تتوقف.. وخَلْدُونية في تفكيك البنيات الاجتماعية تُغَادِر.. ونِتشِيَّة بالمطرقة في خلخلة المفاهيم الاجتماعية تَسْتسلم.. ولكنها فاطمة المرنيسي التي ثارت على البنيات الذكورية الاجتماعية شرقا وغربا..  والتي استطاعت من داخل قارة علم الاجتماع أن توضح أن إقصاء النساء هو العنصر المركزي لأي تخلف، وأن يكون قوام الرجولة في هذا الكوكب، حناناً متدفقاً، وفيه رجال ينتحبون حين تفارقهم نساؤهم  فى الصباح، ويحتفون بهم عند  مجيئهمكل غروب، بإنشادهم الشعر، أو إلقاء قصيدة لنزار قبانى عند كل مساء… !
غادرت فاطمة لكنها ستبقى حية كما أفاد الشاعر: “وأهل الجهل حياتهم موت*** وأهل العلم موتهم حياة”. فهي لم تكن أبدا من السلطانات المنسيات، ولا من الحريم، لأنها كانت مقاتلة على جبهة الفكر والحرية، وامرأة شجاعة، من جامعة القرويين، إلى جامعة السوربون، إلى جامعة برانديز بأمريكا. اقتحمت ميادين وحقول شائكة وصعبة، وتميزت بانفتاحها على أفق أكثر سعة، وكما قالت ” إن هناك فرقا شاسعا بين التأمل في غرفة مغلقة والتأمل أمام صخب المحيط الأطلسي، إنهما تجربتان مختلفتان جدا إنني أمام المحيط أدخل في علاقة مع الكون، أحس بأن قوتي تضاهي قوة (المرآة التي تلبس كسوة الريش) التي حكت عنها شهرزاد”.
-1- فاطمة المرنيسي وجامعة القرويين:
في سؤال لمجلة سيدتي عام 1998 ، جاء كالتالي:  ماذا تعلمت أنت التي تتلمذت في فاس من علماء «القرويين»؟، تجيب: تعلمت أن أنظم جهدي يومياً لفهم الهوى والعواطف حتى أتمكن من تقوية عقلي، كانت «جامعة القرويين» مجالاً للتعلم على أصوله، درسنا علوم الفقه والعربية والفرنسية والرياضة، أسخر حينما نقول عن الإسلام أنه عنف بينما ما عشت به ودرسته مختلف تماماً.
-2- الكتابة لدى فاطمة المرنيسي كآلية نضال، وقد صارت كاتبة ليس بالصدفة:
وهي المرأة الخبيرة التي ترعرعت في عمق مدينة فاس العالمة، في أحد العوائل الكبرى، والتي مكنها محيطها من جمع ما يزخر به فسيفساء المجتمعي المغربي، حيث تتصادف حياتها مع كل أطياف  ومكونات المجتمع، ولا غرو أن تكتشفت  مبكرا، أهمية القراءة وتطلع على التراث الإسلامي والمروث العلمي العربي وتخلص إلى أن  الكتابة  مُتعة، آلية حياة وبقاء، كما تقول هي نفسها، والكِتَابة حسب فاطمة المرنيسي “مسألة متعة”، لذلك فهي ممنوعة منذ قرون على المقهورين والمغلوبين والضعفاء والفقراء والنساء والفلاحين.. فلا غرو أن تعلن فاطمة المرنيسي تكريس حياتها للكتابة  حيث تقول: “الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان. البيان أقوى من السيف واللغة هي سلاحي. كل هذا تعلمته في الكتاب. ليس بمحض الصدفة أني قد صرت كاتبة”… !!
-3- كتاب “الحب في الحضارة الإسلامية”:
وهو كتاب صدر منذ سنة 1984، ويتطرق إلى الحب بين الإسلام والغرب، تقول  الكاتبة: “هناك ستون لفظ لقول كلمة أحبك، محصاة من قبل ابن القيم في كتاب روضة المحبين”، وهناك العديد من علماء الإسلام الذين تطرقوا لهذا الموضوع، والكتاب نفسه  عبارة عن نصوص عن الحب لجماعة من الأئمة الذين تطرقوا للموضوع لتعزيز القدرة العقلانية للإنسان، منهم ابن حزم في كتابه “طوق الحمامة”، وكتاب ابن قيم الجوزية في كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”، وداوود الأنطاكي في مؤلفه “تزيين الأشواق في أخبار العشاق”، والشيخ محمد السراج في “مصارع العشاق”، وشهاب الدين بن حجلة في  “ديوان الصبابة”. وتشير عالمة السوسيولوجا فاطمة المرنيسي إلى أن: “علماء الغرب جعلوا فهم العاطفة مشكلة مرضية تستدعي زيارة الطبيب النفساني، بينما العلماء المسلمون قدروا أنه لا يمكنك أن تغذي عقلك إلا بفهم عاطفتك أولاً، وهنا يكمن بالنسبة لي جمال وقوة الإسلام”، وتستشهد بقول ابن حزم “إذا كانت الدولة للعقل سالمه الهوى، وكان من خدمه وأتباعه، كما أن الدولة إذا كانت للهوى، صار العقل أسيراً في يديه، محكوماً عليه”، ويقول ابن الجوزية: “من لم يكن عقله أغلب الأشياء عليه كان حتفه وهلاكه في أحب الأشياء إليه”.
-4- السلطة والمرأة في كتاب “سلطانات منسيّات: نساء قائدات دولة في الإسلام”:
تتضح الرؤى و الحس النضالي المبكر وتقول ” الإنسان الذي يرفض النقد لن يستطيع قط الترقي والسعي نحو الأكمل”، وتضيف: “وجود الكيد، أي إرادة النساء في عرقله سلطه الرجل”، ما فتئت تسأل المجتمع العربي والإسلامي : “لماذا لم يتعود العالم العربي الإسلامي بعد على مكتسبات الديمقراطية مثل المساواة الاعتبارية للأفراد، وقبول التعددية وحرية الضمير؟”. كما سألت من نفس المنحى لكن في شكل وسياق مختلف، حيث فضحت واقع الاستلاب والعبودية المقنعة  من داخل المجتمعات الغربية، الذي ينظر إلى المرأة بأنها معدة للاستغلال من قبل الرجال، كما انتقدت نظرة الغرب تقريبا النمطية للمرأة العربية، نظرة لا تتعدى الشهوة الجنسية واستـئـثار الرجل بها. وهكذا، تستخلص أن حريم الغرب أشدّ وطـئا على المرأة من حريم الشرق.

–5– “نساء على أجنحة الحلم”، أهم  كتبها، رواية وتعتبر سيرة ذاتية، ترجمت إلى 30 لغة، لتنتشر في أغلب بلدان العالم، تروي الكاتبة فاطمة المرنيسي، منذ بدايات حياتها، نشأتها وطفولتها وعائلتها الكبيرة ،أحداث ووقائع عن العلاقات والمحرم والمباح من الأفعال والأقوال، وخصوصاً ما يتعلق منها بالمجتمع المغربي و بالحريم فيه، بعاداته وتقاليده، فترة الحماية الأجنبية الفرنسية والإسبانية للمغرب، حيث تأخذ القارئ بين الأمكنة والأزقة والساحات، ليسمع حوارات المارة وأحاديث المقيمين ويدق أبواب القصور ويتأمل نجوماً تشبه النمش.، بأسلوب أدبي ماتع، وسرد حكائي عميق، وحبكة فنية متشابكة ورائعة كأنه شربة ماء، ظهيرة يوم مصيف، لعابر في قيظ الصحراء. وهي الخبيرة بالسرد حيث تقول : “إن السرد فن مفتوح ننجح أو نخفق فيه، لكننا نحتاجه لنحيا ونجعل الآخرين يحبوننا، يجب معرفة الآخر لإغوائه بشكل أفضل.. “، من بطن الرواية  تطرح الأسئلة الحارقة على لسان الراوي صفحة 254 ” هناك حدود حقيقية تقسم العالم إلى قسمين، وهي ترسم خطوط السلطة، لأن وجود الحدود أينما كانت، يعني بأن هناك نمطين من البشر على هذه الأرض التي خلقها الله: هناك الأقوياء في جانب، والضعفاء في الجانب الآخر” (ص 254)، فتسأل فاطمة مينة: “كيف لي أن أعرف الجانب الذي أنتمي إليه؟ .. إذا لم تتمكني من مغادرة المكان الذي توجدين فيه، ستظلين في جانب الضعفاء”،

تقول العمة حبيبة: “تذكروا بأن لا أحد سيعثر على حل لمشكل، إذا لم يطرح الأسئلة“.. .!!
-6- كتاب “وراء الحجاب: الجنس والإيديولوجيا والإسلام،” الذي أحدث زوبعة كبرى، وأثار جدلاً على نطاق واسع وتطرقت فيه إلى مواضيع كانت تعتبر من الطابوهات، بحيث قدم الكتاب في أصله بالإنجليزية ” Beyond the Veil  “، كأطروحة دكتوراه لها، في الولايات المتحدة سنة 1975. أنذاك كانت فاطمة المرنيسي، عالمة الاجتماع الشابة، واحدة من أولى الطالبات المغربيات اللواتي كن يدرسن في الخارج. وتناولت أطروحتها صورة المرأة لدى محلل النفس النمساوي سيغموند فرويد لدى العالم الإسلامي أبي حامد الغزالي. وفي هذا الصدد تقول فاطمة المرنيسي: “يزعم فرويد أن المرأة تتمنى أن يكون لها قضيب ذكوري وأنا استنتجت من ذلك أن فرويد أحمق. أما إذا طالعت مؤلفات الغزالي فتلاحظ أن نظرته معاكسة تماما. فهو يرى أن الرجل يحسد المرأة على رحمها وعلى قدرتها على الإنجاب”. وتلاحظ الكاتبة السوسيولوجية أن الإسلام يختلف بذلك عن التقاليد المسيحية الغربية، فهو ينظر إلى المرأة على أنها قوية مبدئيا. غير أن الرجال المسلمين الذين يرون في هذه القوة تهديدا لما يعتبرونه حقهم في السلطة، قاموا بإرضاخ النساء لسيطرتهم الأبوية، لا سيما من خلال الحجاب. واليوم يعتبر كتاب ” وراء الحجاب: الجنس والإيديولوجيا والإسلام” مرجعا رئيسيا في مجال علم “النوع الاجتماعي والإسلام” وتتم ترجمته حاليا إلى لغات مختلفة، مثلا في ماليزيا وإندونيسيا والهند.
-7- ختاما… وقبل الوداع..
فاطمة المرنيسي لم تمت لأنها خلدت معنى جديدا للمرأة في نصوص التاريخ، وفي عمق صفحات كتبه. وستبقى خالدة في قلوب كل من سيمر في هذا العالم وسيقرأ حروفها التي كتبتها بأمدة امتزجت بدمائها وبكل ما تحويه من ثورة ضد الظلم والاستبداد. إنها من أسماء النساء القليلات الرائدات، اللواتي اقتحمن عالم التراث المغلف بالقدسية للبحث في قضايا المرأة…فكتبت باسلوب علمي وفكري وتحليلي عميق وضرب أدبي راق وماتع، فكتبها ومقالاتها العلمية تحمل في طياتها الكثير من المعرفة، لكنها في آن واحد نصوص من الأدب الجميل، نصوص شعرية وهزلية وممتعة للمطالعة، كاتبة حملت إشكالية وهموم الرؤية في التراث، اسم انتصر لكل ما هو مشرق ومستنير في تراثنا الإسلامي وأعلى من شانه،  فقبل أن تودع هذا العالم، تركت وصيتها الأبدية:”إن العالم العربي الذي يستحق أن نحارب ونتصادم في سجالاتنا من أجله، هو عالم حيث يستطيع العقل العربي بسط قدراته، كما يبسط عصفور جناحيه ليبلغ الأعالي”..فرحمة الله على روح السوسيولوجية والعالمة المغربية الكبيرة فاطمة المرنيسي، فلترقدي بسلام…

المقال من مصدره

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password