ايام قليلة من العواصف الرعدية والزخات المطرية التي لم تشهد لها المملكة المغربية مثيلا منذ ستينات القرن الماضي كانت كفيلة بكشف عورات البنى التحتية الهشة، وسقوط البيوت البالية، واظهار معالم فساد الذمم التي تولت عمليات سواء تدشين طرق وقناطر جديدة، او استحداث ملاعب غرقت مطرا وأغرقت معها صورة المغرب في وحل الانتقادات والسخرية العالمية، بعدما ظهر لاعبي بعض فرق كأس الاندية يسبحون في “ضايات” غطت ارضية الملعب، بينما رفضت فرق اخرى اللعب، في نفس المركب الرياضي، قبل ان تقرر الجامعة المغربية تغيير وجهة المباراة من العاصمة الرباط الى مدينة مراكش.
وامام هذا الدمار، الناجم عن تساقطات اعتبرت فوق العادية، الذي لحق حواضر وقرى بالكامل، وامام فضيحة الملعب التي غطت صفحات الصحافة العالمية، لم نجد مسؤولا مغربيا واحدا يخرج على الملأ لإعلان مسؤوليته عما حدث، ومايزال يحدث، ويعلن استقالته من منصبه احتراما لنفسه ومنصبه، واحتراما ايضا لشعب اصيب بالصدمة من جراء الاخبار والصور التي تتلاحق يوميا عن المشاهد التي خلفتها تساقطات الامطار. بل على العكس، الكل يحاول ايجاد تبريرات، لن تقنع احدا الى اصحابها، وفي احسن الحالات إلقاء المسؤولية على السماء. بينما لم يجد رئيس الحكومة حرجا في الادعاء ان ما حدث في مركب مولاي عبد الله، وربما كان يفكر ايضا في أن ما اصاب بعض مدننا وضواحيها، “ ليس كارثة وطنية”، موضحا أن ما جرى هو “إشكال محرج تم فتح تحقيق بخصوصه، والأمور ستأخذ طريقها إلى النهاية، فيما نتائج التحقيق ستعلن في وقتها”.
وبين سطحية نظرية “الإشكال”، وهول واقع “الكارثة” ضحك بعض العالم من صورة ملعب يجفف بـ “كراطة” و”اسفنجة”، بينما صدم البعض الاخر من واقع بنى تحتية دولة كانت قاب قوسين او ادنى من تنظيم اكبر تظاهرة كروية افريقية. اما سقوط البنايات وغرق مناطق بالكامل وانقطاع الطرق والماء والكهرباء والهاتف عنها، فيما لاتزال التوقعات تنذر بالاسوأ، مقابل اسكات المتضررين بخيم و”قوالب سكر” او سترات واقية وأطواق نجاة وجلابيب بلاستيكية وأحذية خاصة ضد المياه، فلا اعلم ان كان سيدخل في اطار الإشكال او الكارثة الحقيقية التي عرت مسؤولي هذا البلد، واوجبت فتح تحقيق ومعاقبة المتورطين إعمالا للمبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة.
وحتى لا يدعي البعض أن ما تشهده مناطقنا المختلفة هو نتيجة تساقطات، يمكن ان يعتبرها البعض نعمة فيما يراها البعض الاخر نقمة، سأقول ان السماء تمطر في كل مكان، وربما بصورة اكبر بكثير مما نشهدها عليه اليوم في المغرب، لكن لم نسمع انها اخذت ارواح العشرات، ممن لم تجد مهرجاناتنا الدولية دقيقة واحدة للترحم على ارواحهم، بينما تم تهميش الكثير من ضحايا الفياضانات، او تسببت في هذا الكم من الدمار واقتلاع الاسفلت عن شوارعنا وطرقاتنا، وسقوط كباري لم يمر على تشييدها اكثر من سنة، وشردت عائلات لا تزال تبحث عن مأوى وغطاء.. امام صمت المسؤولين، عدا بعض المناكشات والمزايدات بين الحكومة والمعارضة، وغياب شبه تام للاعلام، وتراشق الاتهامات بين الجهات المحلية، مقابل الاستمرار في حمل شعار “الاستثنائية” بين اروقة المهرجانات والمنتديات والمؤتمرات التي يحتضنها بلدنا الغالي، رغم أنف كل المصائب، بينما الواقع يقول اننا استثنائيون اكثر في تزييف الواقع والهروب الى الأمام وعدم تحمل المسؤولية وإيجاد الاعذار وتبرير الاخطاء.
الامطار الاخيرة اسقطت ورقة التوت عن واقعنا الهش، الذي يؤكد استشراء الفساد في جسد مؤسساتنا، سواء المسؤولة عن البنى التحتية والتجهيز والتغطية والوقاية والاسعاف والتنمية الاجتماعية، او المختصة برصد الكوارث قبل وقوعها واعداد البرامج من اجل التخفيف من وطأتها ومن تبعاتها.. وهنا لابد من وقفة مع الذات لاستيعاب ما يحدث وتحديد المسؤول عنه، ولو أن الجميع مسؤول كل في موقعه بدءا من رئاسة الحكومة الى الوزارات الوصية والمندوبيات السامية، الى الولاة المعينين والعمداء المنتخبين وغيرهم.. فلكل واحد منهم نصيبه من المسؤولية التي يحاول ان يتبرأ منها ملقيا اياها على الطرف الاخر، وان وصل هذا النزاع وتقاذف الاتهامات الى المتضرر نفسه.
وما عشناه من صور مؤلمة في هذه الايام القارسة القاسية لا يمكن ان نرتكب في حقه جريمة الصمت، او نتحايل عليه باستخدام مصطلحات لا تليق بحجم المأساة، من قبيل “اشكالية محرجة”، ونطوي صفحته وننسى مخلفاته وما تركه من ضرر، وربما خوف في قلوب الكثيرين ممن انهارت، فوق رؤوسهم وتحت اقدامهم، مدنهم وقراهم في هذا الموسم الغاضب. لا يمكن ان نغض الطرف عما حدث في ايامنا التي خلت، او ما سوف تحمله ايامنا القادمة، مع اشراقة يوم دافء لا يرى فيه البعض الا معالم عام فلاحي زاخر، بل يجب ان نتساءل ونسائل كل من أسهم في كارثية الصور التي لم تجد لها من مساحة الا على صفحات المواقع الاجتماعية، وعلى كل من ثبت تورطه من قريب او بعيد تحمل تبعات فساده او تقصيره.
اما لاصحاب نظرية “الاشكالية المحرجة” فقولوا حقا، او اصمتوا خيرا تفاديا لاستفزاز اكثر لمشاعر كل المغاربة.
المغرب: القليل من الحياء/ وفاء صندي
وفاء صندي