لا يخفى عن المُهتمين بمصائر العِبَاد كيف تغَوَّل أخطبوط الرّأسمال الرّبوي ذي الامتدادات الكونية مُخترقا أنْسِجة الأمم والشعوب، ومُمْسِكا بأعناق الناس كافّةً يتحّكم في أدَقّ تفاصيل الحياة اليومية للأفراد والأسر والجماعات، انطلاقا من كُبْريات مراكز العالم المُصَنّع إلى أنْأى هوامش المعمور. ولم يَعُد خافيا كيف تحوّلت أجهزة الدول وكبريات المؤسسات والاتحادات القارية وهيئات الأمم والحكومات إلى مُجَرّد أدوات تنفيذية ظاهرة لقرارات أخطبوط مالي مُتَسَتّر، لا وَطنَ ولا مِلّة ولا أخلاق له.
ولم يَعُد لأيّ كان ـ أفرادًا وشعوبًا واتحاداتِ دُوَل ـ منْ هامشٍ للتحكم في ثروات بلدانهم ولا من حريةٍ لوضع سياسات دُوَلهم وتنظيم حياتهم وتخطيط مُسْتقبل أبنائهم. فمِنْ أبراج المُراقبة الكونية المُجَهّزة بأحدث التقنيات الفضائية والمُمْسِكة بخيوط الاسْتِخْبار والتنصّت المبثوثة في كل أنحاء العالم، يتمّ إحصاء أنفاس الناس وتتبّع حركاتهم واستقراء نبَضَات قلوبهم. كما يجْري تشكيل الرأي العام وأذواق الناس وِفْق آخر تقنيات الترَصّد عن بُعد انطلاقا من كبريات مراكز طمْسِ الحقائق وقلب العَيْن، المُتَحَكّمة في الصّوْت والصّورة والقلم. وعند كل إشارة، تتحرّك المنظومة عِمْلاقةً بواسطة شبكات التواصل العنكبوتية المتناسلة على مدار الساعة لسلب الإرادة وبَثّ الرّعب ومَلْء أوعية الناس وقد أُفْرغت مُسَبّقا من كافة مهاراتها الفكرية وقُدُراتها النقدية وفُصِلت عن جذورها الثقافية وأدْمِجَتْ ضِمْن قِطْعَان الفُرْجة المُعَوْلمَة.
وإذا كانت كافة الأديان والرسائل السّماوية قد نبّهت بني آدم إلى الآثار المُخرِّبة للرّبا ودَوْرِه على مدار تاريخ البشرية في نَخْر الكيانات وهَدْر الطاقات وتفكيك البيوتات وإشاعة الفقر والمجاعات ونشر الخراب والدّمار، فقد سبق لكبار عُلماء الاقتصاد أيضا أن حذّروا ـ منذ القرن التاسع عشر ـ من مَخاطر تركيز الثروات والأموال والاستحواذ على ثمرة عمل الآخرين بواسطة المعاملات المالية، وِفْق قواعد نظام رأسمالي ـ أروبي المنشأ غرْبِيَ المنحى ـ ذي طبيعة رَبَوية.
حقيقة أن منسوب الضغط المجتمعي قد تمكّن على مدار القرنين الماضيين مِنْ تعديل كَفّة الاستغلال ضمن اقتصاديات البلدان المُصَنّعة التي نجحت مجتمعاتها ـ وإن بدرجات متفاوتة ـ في إرساء أنظمة ليبيرالية أو تشاركية مُحَقِّقَة مَوْجة من الرّخاء العام. بينما ظل ثِقل الاستغلال والنهْب كابِسًا على مقدرات الشعوب بالبلاد العربية وقارات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؛ وقد غدت ـ وإن بدرجات متفاوِتَةٍ أيضا ـ مَرْتعًا للجهل والفقر والمَجَاعات، ومسْرَحًا للتهجير والتقتيل والتخريب، يتحَكّم الآخرون في مصائِرِها وفي صياغة سياساتها القُطرية بواسطة إملاءات وُكَلاء الأخطبوط المالي.
وها هي الرأسمالية الغربية المَنْشَأ الكوْنية المَنْحَى قد وصلت إلى مداها في نهْب خيرات البرّ والبحر واعْتِصَار المُنْتِجين واسْتخراج ثمَرَة العاملين واكْتِنَاز الأموال الطائلة في خزائن حُفنَةٍ من المُرابين؛ فلم تعُدْ أزمات الإقتصاد الكوني المُتَرَتّبة عن مُضَارَباتهم في كبريات أسواق المال العالمية دوْرِيّةً كما كانت خلال القرن الماضي، بل لصِيقَة بالنظام الذي تأزّم جوْهَرُه وبدأ يتفكك مِنَ الداخل، وقد ألقى بملايين المُنتجين في هاوية البطالة؛ فهل مِنْ خلاص؟
واضح أن مُحَاولات التعديل المُتعاقبة وِفْق أنْسَاق النظرية الاقتصادية الليبِرالية لم تعُدْ بمختلف مدارسها الفكرية تُجدي لكبْح جِمَاح نظام بلغ أقصى درجات الافْتِرَاس. وكان قد سبَق لبعض مشاهير حُكماء القرن التاسع عشر أن نبّهوا ـ كما هو معلوم ـ على خطورة الهاوية التي تنتظر مصير الإنسانية، إن ظلت خوَلا لرأسمال مُتوحِّش لم يتوقف منذ رأى النور في شكله التجاري فالصّناعي ثم الكوني على توسيع الهُوّة بين المُتَحَكّمين في النظام من جهة، والعامِلين في تحريك عَجَلتِه وجَمْهرة الأتباع الدائرين في فَلَكِه من جهة أخرى. ولا يخفى كيف ظل الأمل معقودا طوال القرن الماضي، ولَرُبّما إلى اليوم لدى بعض الأمم والشعوب، على النظرية الاقتصادية الماركسية التي بشّرت بانهيار النظام الرأسمالي وقيام نظام اشتراكي بديل يُمَهّد السُّبل للمُساواة المُطلقة بين الناس في مجتمع شيوعي بدون طبقات.
وغني عن البيان أن كِلَا النظريتين أروبِيَتَيْ المَنشأ غَرْبِيَتَيْ المَنْحى، وإن كانتا كوْنِيَتَيْ الشيُوع. ومن المعلوم أن الفكر الأروبي المعاصر قد ظل بكل مُكَوِّناتِه وفي مختلف حقول المعرفة مُتَمَرْكِزًا على ذاته. ومن أبرز مَكَامِن الضعف في تحاليله إقدام العلماء والفلاسفة وأعلام الفكر الحديث على بَتْر عطاءات المرحلة العربية الإسلامية الوسيطة من تاريخ الإنسانية. وكيف يُمكن الإقرار بما اعْتَبَرَهُ الماركسيون “نظرية اقتصادية كوْنية!!” وقد ظلوا ـ هم أيضا ـ مُتَجاهلين لِفَصْلٍ أساسي من تاريخ البشرية؟ وهو الخطأ القاتل الذي فوّت عليهم اسْتِشْرَاف المستقبل.
ولا يخفى كيف حاول بعض حُكَمَائِهم للخروج من القَوْقَعَة الأروبية الاسْتدراك بمقولة “نمط الانتاج الأسيوي” التي ظلت سطحية في تحاليلها عاجِزَةً عن النفاذ إلى جوهر النظام الاقتصادي الذي ساد في قلب العالم الوسيط، أيام عزّ العطاء الحضاري بدار الإسلام. وما دامت النظرِيَّتيْن الاقتِصَادِيَتيْن الليبِرالية والماركسية إقليميتي النزعة وبدون ما يكفي من الأصول التاريخية التي ترْبِطُهما بماضي البشرية، فمن الطبيعي أن تذبل أوراقهما وتيبس أغصانهما وتعْجِزان اليوم وقد انسَدَّت الآفاق أمام الجميع عن صياغة معالم خَلاصٍ كونية. وها هي أعراض القصور ماثلة للعيان في كل بِقاع العالم.
وكان قد سبق أن وثّقنا ضِمْن كتاب جامِع وفي أعمال مُخْتَصّة ـ اعْتِمادًا على أمهات المصادر التاريخية وعيون الكتب والمصنفات الفقهية ـ طبيعة النظام الرأسمالي الذي رأى النور بالمغرب في تجربة تاريخية أُولى، سابقة بِقُرُونٍ من العطاء الحضاري التجربة الأروبية اللاحقة. وما دام المؤرخون والفقهاء المغاربة قد ظلوا على عهدهم مُسْتَرِيحِين في ظلال التقليد ينتظِرُون ـ مَشْلولي الإرادة ـ ما يُرَوّجُونه من كتابات وأفكار الآخرين، فمن الطبيعي أن تظل عناصر ذاك النظام وأنْساقِه ومُكوِّناته ـ إلى اليوم ـ مجهولة لدى عموم الناس ومِنْ طرَفِ مُعْظم المُهْتمين بشؤون الاقتصاد وتاريخ النُّظُم.
وما دام العصْرُ الوسيط في منظور المدارس التاريخية الأروبية عصْرَ ظلماتٍ، بفعل تحكّم الإقطاع والكَهَنُوت الكَنَسي، فلا بأس من طمْس أنوار تاريخ المغرب السّاطِعة حينذاك، بالترْويج لصورة بلدٍ مزّقته الحروب والغزَوَات، وفكّكته الثورات والدّعوات، ونالت منه الطواعين والجَفاف والمَجاعات ..إلخ. فما دام كبار المُعلمين الأجانب قد فصّلوا حِقَبَ تاريخ البشرية وِفْق أهْوَائِهم، بما يُوَافق مَفَاصِل تاريخ أروبا، فلمْ يبْق أمَام كُسَالى التلاميذ إلا تطبيقها بالحَرْف على تواريخ بَلَدِهم في تحْقِيب معْكوسٍ للحقائق التاريخية، يَرَى الظلمات حيث النّور والأنْوار حيث الظلمات.
حقيقة أن النظام الرأسمالي المغربي الوسيط كان يتحَكّم في تدبيره مَنْ اشتهر لدى قُدامى فقهاء المالكية وأهل القلم بـ”أرباب المُعَامَلات والأموال“. وكان يسعى ـ هو الآخر ـ إلى تحقيق أعلى درجات الرّبح من خلال مُضاعفة عمليات التثمير في المُعَامَلات المالية بواسطة عقود القِرَاض؛ وفي المعاملات التجارية بواسطة عقود التبْضيع والتّسْفير والسِّلم في البضائع والرّهون وما إلى ذلك؛ وفي الصنائع بواسطة عقود التضمين والتسْليم؛ وفي الفلاحة بواسطة عقود المُزارَعَة والمُغَارَسَة والمُسَاقاة؛ وفي البناء والعمران بواسطة عقود المُؤاجرة والمُجاعَلة، وما إلى ذلك من أصناف العقود التي تفُوق ـ في دِقّتها وقُدُرَاتِها على استيعاب أعْقَدِ أصناف المُعاملات ـ كافة ما أنْتَجَتْه الحضارات السابقة واللاحقة من قوانينَ ومُقتضيات. ولم يدّخر أرباب الأموال وُسْعًا في تركيز رؤوس أموالهم وتجْمِيع قوى عملهم من خلال إنشاء ـ ما يَنِدُّ عن الحصر في هذا المقام ـ من أصناف الشركات المُفصّلة الحيثياث والقوانين والبنود في نُظم المغرب الوسيط: منها شركات التثمير المعدني وشركات المُفاوَضَة وشركات المُساهَمَة وشركات العِنَان وشركات الوُجُوه والشركة على الذِّمَم وشركات الأبْدان، وغيرها. بفضل شركائنا، يمكنك العثور عبر الإنترنت على ما يناسب كل تفضيل وميزانية، بدءًا من الموديلات ذات الميزانية المحدودة وحتى الموديلات الأنيقة للغاية.
إلأ أن أبرز ما يُمَيّز التجربة الرأسمالية المغربية الوسيطة عن نظيرتها الأروبية الحديثة أنها ظلت على الدّوَام مُتَيَقّضَة في سَدّ كافة المنافذ أمام الانزلاقات الرَّبوية التي ظلت مُحَرّمة بحُكم الشرائع والأحكام السّائرة في البلد. ولا تخفى الآثار الطيبة لذاك الصّنف الغير الرّبوي من الرأسمالية الذي بِقَدْرِ ما يُسَاهم في الرّفع من أرباح أرباب الأموال نتيجة مُضَاعفة عقود تثمير أموالهم في مختلف القطاعات، بقدر ما تتدَفّق الخيرات على المُتعاقدين معهم من العَمّالين والفلاحين والتجار والصّناع والوُكلاء .. إلخ.
ومما يُمَيّزها أيْضا دأبُها على تحويل جُزْءٍ من الثروات المتراكمة لدى أرباب الأموال بواسطة الأعشار والزكوات المفروضة بحكم الشرائع الجارية في البلد إلى الطبقات الدنيا في المجتمع. كما ظلت الأموال المتراكمة تتدفق في شكل “أحْبَاس” على المؤسسات العلمية (“طلبة العلم“) والصحية (“المرضى وذوي العاهات“) والدّفاعية (“المرابطون في الثغور للدفاع عن البلد“). ناهيك عن المراصد والجوالي وأصناف الرّسوم والضرائب التي تتدفق على خزائن الدولة. كل المؤشرات المتوفرة لدينا عن التجربة الرأسمالية المغربية تَكْشِفُ عن طبيعتها التعاقُدِيّة الاجتماعية التي تستهدف تحقيق أعلى درجات التوازن بين الطبقات، والمَنَاعة تُجَاه “دار الحرب“. وتتواتر المعلومات عن ذاك الصّنف الرّاقي من أرباب الأموال الذين إذا سئِمُوا زينة الحياة الدّنيا رتّبوا للبَنَات والأبناء تدْبير جُزْءٍ مِنْ أموالهم، بما يَكْفَل استمرار الأعمال؛ وتنازلوا عن الباقي في سُبُل الخير، وسَاحُوا في الأرض فُقَرَاء يتأملون آيات الله، لينتهي بهم المطاف مُجَاوِرِين في الحَرَمَيْن.
وما كان ذاك النظام التثميري المغربي الوسيط ليَسْتَغِلّ الأمم والشعوب الأخرى التي وقَعَتْ في دائرة نفوذه ولا لينْخَر اقتصادياتها كما فعل الرأسمال الرّبوي الأروبي ذي النزعة الاستعمارية الاسْتِعْبادِيَة التخريبية. ولا يخفى ـ على سبيل المثال ـ كيف شاعت الخيرات وتراكمت الثروات واسْتَبْحَر العمران وعمّ الرخاء كافة طبقات وفئات المجتمع: مُسْلِمين ويهودًا ومسيحيين، بشبه جزيرة إيبيريا، منذ اندماجها في دار الإسلام. ولا يخفى أيضا كيف انْتَعَشَتْ أوضاع قبائل وممالك بلاد السودان (إفريقيا جنوب الصحراء) المُتَعَامِلة طوال قرون مع الرأسمال المغربي.
يتعلق الأمر إذا بصِنْفٍ فريدٍ من الرأسمالية التي نشأت بمغرب دار الإسلام أيام عِزّ عطائه الحضاري وترَعْرَعت في كنَفِ نظام الجماعة تحت العين الساهرة لذاك الرّعيل الشامخ من فقهاء المالكية المُجْتهدين بعِلْمِهم في استنباط أنْسَب الشرائع والأحكام لكل عصْر، المُسْتنيرين بآراء الحُكَمَاء الذين ما غَفلوا يوْمًا عن اعتبار نواميس الطبيعة وحقوق الناس وكرامة المَخْلوقين هِبَة من الخالق ومن آيات الله التي من اللازم أن تظل بـ”قوة السلطان” فوق كل اعتبار. وهو الشكل التاريخي الذي سبق أن وسَمْناه بـ”نظام التثمير التعاقدي” الذي يعود بالنفع على الجميع، تمييزا له عن الصنف الأروبي المَنْشَأ الذي نَخَر الأمم والشعوب والقارات مُجْبِرًا عموم الخلق على الوقوع في شِرْك “أغلال الرأسمال الربوي الكونية“، بقُوّة الإمْلاءَاتِ مِنْ فوْق التي تُنفَّذ قهْرا تحت طائلة التهديد بالحديد والنار.
وها هي أدوات التنفيذ الظاهرة والباطنة تصُول وتجول في بلادنا العربية وفي مناطق أخرى من العالم تُشْعِل فتائل الفتنة وتُفَكّك نسيج الشعوب وبُنيان الجيوش وأجهزة الأمن. وأثناء ذلك تتمادى في نهْب ما تبقى من ثَرَوَاتٍ وذَخائرَ وتُحَف، ناثِرَة بواسطة الأزلام المَمْسُوخين مِنْ مختلف الألوان: الخراب والقتل والدّمار، في أفْضَعَ ما حدَث لأهْلِنا العُزَّل الطيّبِين من تشرّد وهَوَان في عُقْر ديارهم التي لم تعُدْ كما كانت أيام الجماعة “دار سِلم” بل “دار حرب” مُسْتعِرَة. وها نحن جميعا بحُكامنا وأحْزابنا وعُلمائنا وفقهائنا ومُفكرينا غافلون عن عدوّنا: ذاك الأخطبوط الرّبوي الذي سبق له أن رسَمَ في مُسْتَهَلّ القرن الماضي الخريطة التي كانت عليها بُلداننا، وها هو اليوم بصدد استكمال وضْع اللمسات الأخيرة على ما سيُصْبِح عليه مُسْتقبلنا، إن لم نسْتدْرِك الوضع.
ويبدو أن الوقت قد حَانَ أمام أهل المغرب، ليس فقط لاسْتخلاص العِبَر من تاريخهم العريق، بل والشروع في إحْياء نظامهم الرأسمالي التثميري والاجْتهاد في جَعْله الأنْسَب لوَضْعِنا الرّاهن والأفضل لمُجْتمعنا المُعَاصِر، من كافة النظم المُقتبسة من مُجْتَمَعات وتواريخ غيرنا. وغني عن البيان أن تحقيق ذلك يتطلب تحرّر فقهائنا من الدوَرَان في فَرَاغات “فقه القيل والقال“، ويُفَتّقوا أذهانَهُم ويشْحَذوا أدوات استنباط الأحكام وِفْق مُسْتلزمات عصْرٍ جديد، لم يسْبق لأحد من أئمة فقهائنا أن عاينه. كما يتطلب تحَقّق عُلمَائنا في تجارب كبريات الأمم وإدْرَاك مُسْتويات تطور اقتصادياتها ومَدَارج العلوم في مُخْتبراتها. وتتطلب أيضا شروع أهل القلم مِنّا في إيقاد أنوار العلم والحِكْمة بديارنا في مواجهة ظلامات الجهل المُدْلَهِمّة التي أحاطت بأهلنا.
ومن السّاذج بل والمُخْجِل أن يُطالِعَنا ذاك الصّنف الرّديئ من جَهَلة الدّعاة المُتَأسْلِمين مَتْبُوعين بحُثَالة السّاسة بدعوات خرْقاء إلى إنشاء ما اعتبروه “بنوكا إسلامية” وكأنّهم يَصِفُونَ معالجة السّرطان المُسْتفْحِل الداء في جسم الأمة بأقراص الأسْبِرين، درْءًا لجهلهم بأربعة عشر قرنا من تاريخ وحضارة دار الإسلام، وإخفاءً لكَسَلهم المُزْمِن وقد اسْتكانوا في مواقفهم مُتَفَرّجين ـ لا حول لهم ولا قوة ـ أمام احتدام التنافس بين اقتصاديات الأمم.
وكان قد سبقت الإشارة في خريف سنة 2011 ضمن الحلقة الخامسة من هذه السلسلة إلى أن الوقت قد حان للنظر في كيفية النزول مُجتمعين من سفينة المُرَابين المُوشِكة على الغَرَق، وأنْ لا جدوى في استمرار التنافس على زعامات إقليمية لن تكون إلا غادرة بأهلنا تحت رمال الأخطبوط الرّبوي المتحركة. وقد تمّ حينئذ التذكير بقوله تعالى: ﴿يا أيّها الذين آمنوا اتّقُوا اللهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ من الرِّبا إنْ كنْتُمْ مؤمِنين، فإن لم تفعَلُوا فَاذَنُوا بحربٍ مِنَ الله ورسولِهِ..﴾. وها هي مقدّمات الحَرْب قد اسْتَعَرَتْ في أكثر من مكان، وسوف لن تتوقف عن تحْوِيلنا جميعا إلى حَطَب جهنم، إنْ ظللنا ـ لا قدّر الله ـ غافلين وفاسِحين المجال للأخطبوط الرّبوي ليَرْتع كما شاء في ديارنا.
المقال ضمن سلسلة من المقالات حول الأمن الثقافي المغربي وهو الحلقة العاشرة
الدكتور أحمد الطاهري
أستاذ التعليم العالي مختص في تاريخ المغرب والأندلس
إشبيلية 03 دجنبر 2014