تركز مختلف الكتب الصادرة حول الجماعات المتطرفة ومنها القاعدة ومن يدور في فلكها على العامل العقائدي في التفسير والتحليل للظاهرة ورد الفعل السياسي على سياسة الغرب غير المتوازنة، لكن كتاب “الجهاد الزائف” للإسبانية بيتريس ميسا يخرج عن هذا المألوف الأكاديمي والإعلامي نحو تفسيرات تلقي الضوء على الطابع الاقتصادي والمنفعة الخاصة لبعض الجماعات في منطقة الساحل الإفريقي وأساسا شمال مالي، المعقل الرئيسي لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي والذي تسبب في حرب تزعمتها فرنسا للدفاع عن مصالحها أكثر من احتواء الإرهاب.
وتناسلت الكتب حول الإرهاب في العالم خلال العقد الأخير وعلى رأسها تنظيم القاعدة وما يرتبط بها من جماعات. وهذه الكتب ركزت على الشرق الأوسط وكذلك أوروبا ومؤخرا تهتم بمنطقة المغرب العربي ومنطقة الصحراء الواقعة أسفلها، أي دول الساحل. وفي حالة المنطقة الأخيرة فهي قليلة نسبيا ولكنها بدأت تلفت الأنظار بسبب التدخل الفرنسي وما يكتب عن تسرب داعش وما يجري في ليبيا وتونس وبوكو حرم التي تهدد بنشر التطرف في غرب إفريقيا.
وغالبا ما تنطلق هذه الكتب من مفاهيم “نيو استشراقية” محضة أو مفاهيم أمنية أساسا بحكم أن الكثير من الدراسات من هذا النوع تمولها معاهد للدراسات الاستراتيجية مرتبطة بهيئات عسكرية واستخباراتية ترسم مسبقا النتائج والأهداف المرجو تحقيقها أو تبريرها أحيانا.
لكن كتاب “الجهاد الزائف” للإسبانية بيتريس ميسا الصادر السنة الماضية يختلف عن هذه الدراسات والكتب ويخرج عن هذا التصور، وهو من الكتب القليلة التي تحيد عن الطرح نيو استشراقي. فصاحبته ملمة بالثقافة العربية ومنها الإسلامية بحكم إقامتها الطويلة في المغرب مراسلة لوسائل إعلام اسبانية مثل جريدة “بيريوديكو” الصادرة في برشلونة. وزارت مختلف مناطق الساحل مثل مالي وخاصة الشمال وبوركينا فاسو وموريتانيا والنجير لتغطية الأحداث علاوة على أنها باحثة جامعية تنجز أطروحة دكتوراه حول الإرهاب في الساحل.
والكتاب هو ثمرة هذه المجهودات التي تجمع بين الربورتاج والتحقيق الصحفي والدقة الأكاديمية. وتؤكد في التقديم أنها انطلقت من اختطاف جماعة متطرفة يتزعمها الجزائري المختار بالمختار المحسوب على تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي لثلاثة من الإسبان سنة 2009 كانوا ضمن قافلة إنسانية نحو موريتانيا والسنغال.
ويبرز الكتاب طبيعة الأوضاع السياسية والاجتماعية العامة في شمال دولة مالي قبل التدخل العسكري الفرنسي، حيث كانت منطقة تحت رحمة أنشطة إجرامية على حساب المطالب السياسية التاريخية لحركة الأزواد بإنشاء وطن لهم وهو ما سيعلنونه سنة 2012. فمنطقة شمال مالي شهدت احتلالا من حركات مسلحة كان هدفها هو التحكم في تجارة المخدرات والهجرة السرية ما بين شمال القارة نحو وسطها والعكس صحيح، وذلك بدعم وتنسيق من أطراف في السلطة المركزية في باماكو. وتورطت حركات إسلامية محسوبة على القاعدة في هذا الوضع، فقد وجدت فضاء كبيرا ضمن لها الاستمرار والإقامة بدون متابعة والعيش الهادئ رغم قساوة المناخ والطبيعة الصحراوية.
الكتاب يحاول إقناع المتلقي بأن عدد من الشباب الذي سقط في شباك الجماعات المتطرفة في شمال مالي ذهب بنية ما يفترض أنه جهاد مقدس والانخراط في التداريب استعدادا لمواجهة مسلحة لاحقة ضد أنظمة يعتبرها كافرة في شمال إفريقيا، وإذا به يجد نفسه منغمسا في عمليات ذات طابع إجرامي محض باسم الإسلام وباسم الحرب المقدسة.
الكتاب ينبه القارئ الى ضرورة استحضار معطى أساسي دائما وهو الفضاء الكبير في منطقة الساحل حيث توجد دول تفتقد للبنيات الحقيقية للدولة ومنها مراقبة مساحاتها وحدودها السياسية. وهو ما يسهل نشوء وإقامة “فضاء لتهريب المخدرات وكل الممنوعات”، ويكفي منح غطاء إديولوجي ديني، وفي هذه الحالة إسلامي جهادي، وتحديد الأهداف باسم الديانة، حتى يقتنع الشباب بالحرب المقدسة وينغمسون فيها من خلال اختطاف الأجانب وطلب فدية بملايين اليورو والإشراف على تجارة المخدرات تحت تبرير محاربة النصارى مستقبلا أو الأنظمة الكافرة.
الكتاب يجعل من تهريب المخدرات عنصرا هاما لفهم ما يجري في منطقة الساحل. وتبرز الباحثة في هذه الصدد أن طريق الساحل تحولت الى قناة رئيسية لتهريب المخدرات من منطقة غرب القارة عبر الحشيش القادم من المغرب أو الكوكايين القادم من أمريكا اللاتينية عبر إفريقيا الغربية نحو شرق القارة والشرق الأوسط وأوروبا. وتلقي الضوء على جماعة التوحيد والجهاد الإسلامي في غرب إفريقيا وتعتبرها منظمة تنتمي الى الإجرام المنظم أكثر منها الى الجماعات المتطرفة.
ويتعايش الإجرام المنظم مع التطرف الإسلامي الذي لعبت العربية السعودية دورا هاما في انتشاره قبل وصول الجماعات المتطرفة المرتبطة بالقاعدة من خلال نشر المذهب الوهابي على حساب الصوفية التي تعتبر منطقة الساحل من معاقلها التاريخية. ورغم التركيز على التهريب، يغوض الكتاب في تحليل مفاهيم وخطابات الحركات الإسلامية المتطرفة في المنطقة ورصد الاختلافات بينها التي تبقى نظرية وليس في أرض الواقع.
ومن مميزات الكتاب هو الحوارات مباشرة مع مختلف الفاعلين في منطقة الساحل وخاصة شمال مالي، حيث أجرت حوارات مع الضحايا الغربيين الذين جرى اختطافهم وهم الإسبان روكي باسكوال وألبير فيلاتا وبيير كاميت على يد الكوماندو الذي يتزعمه المختار بلمختار. هذا الأخير سيتخصص في اختطاف الرهائن الغربيين بشكل كبير في المنطقة، وجعل من الاختطاف صناعة حقيقية تدر عشرات الملايين من الدولارات لأن دول مثل فرنسا واسبانيا وإيطاليا كانت تدفع حتى خمسة ملايين مقابل كل رهينة للإفراج عنها.
وتمتد حوارات الكتاب الى فاعلين آخرين مثل الشخصية المثيرة للجدل مصطفى الشافعي الذي كان وسيطا بين الغربيين والجماعات المسلحة في المفاوضات حول الإفراج عن الأسرى. وحاورت بياتريس شباب التحقوا بالجماعات المتطرفة وابتعدوا عنها بسبب ما اكتشفوه من واقع مختلف، أي ممارسة الإجرام أكثر من الجهاد. وهي بهذا تلقي الضوء على نقطة أساسية أغفلتها الأبحاث والإعلام وهي لماذا عجزت جماعات مثل القاعدة في المغرب الإسلامي من استقطاب متطوعين/جهاديين لصفوفها رغم قدراتها المالية ورغم وجودها في فضاء بدون مراقبة.
والكتاب، يفسر تقدم المتطرفين في شمال مالي ليس بسبب قوتها بل بغياب تام للقوات العسكرية المالية التي تفككت ولم تبقى عناصرها في المنطقة ولم تجر مناورات منذ التسعينات ولم يكن في صفوفها أكثر من ألفي جندي غير مستعدين للعمل في شمال البلاد أو مواجهة المتطرفين وتمركزوا في باماكو.
وتخصص الباحثة فصلا لأسباب ودوافع فرنسا للتدخل العسكري للحفاظ على مالي موحدة والحفاظ على مصالحها خوفا من انتقال عدوى التفتت الى دول مجاورة ومنها النجير ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى بسبب استخراج اليورانيوم. وقبل التدخل الفرنسي، تبرز التأثيرات الكبيرة للربيع العربي على شمال مالي، فسقوط أنظمة تونس وليبيا جعل السلاح يتفقد خاصة من ليبيا وتدفق المقاتلين وهو ما يفسر قوة الجماعات سنة 2012 الى مستوى إعلان الإمارة من طرف المتطرفين أو الدولة من جانب الطوارق.
الكتاب ينتهي الى خلاصات تحاول إقناع أن شمال مالي ومنطقة الساحل هي فضاء مفتوح للمواجهات بين مصالح اقتصادية وجيوسياسية، حيث تمتزج الرهانات السياسية للأزواد مع رهانات جماعات متطرفة أخرى للسيطرة على الفضاء الشاسع للتحكم في الهجرة وتهريب المخدرات وعمليات الاختطاف وإقامة إمارات إسلامية. ويستبعد الكتاب القضاء الكلي على الأنشطة الإرهابية والإجرامية في شمال مالي لأن المنطقة شاسعة مثل مساحتي اسبانيا والبرتغال ولا يقطنها أكثر من مليون نسمة وحدودها غير مراقبة نهائيا ويفتقد جيش مالي للبنيات الحقيقية للمراقبة.
ليبقى الخاسر الأكبر هو الديانة الإسلامية التي ترتكب باسمها هذه الجرائم وساكنة أغلبها من الطوارق تتعرض لقساوة الطبيعة الصحراوية لكنها تعاني أكثر من القساوة الصادرة عن السياسيين والمليشيات والقوى الأجنبية.
اسم الكتاب “الجهاد المزيف” La Falsa Yihad
دار النشر: داليا Editorial Dalya
الكاتبة: بيرتيس ميسا Beatriz Mesa
السنة 2013
عدد الصفحات: 302