يعتبر الإسلام من القضايا الشائكة في الغرب وخاصة في دولة مثل فرنسا تدافع طبقة من مثقفيها وسياسييها على ما يسمى «الاستثناء الفرنسي» في الهوية والثقافة أمام ما يعتبرونه زحف الثقافة العربية والإسلامية. ووسط الجدل القائم، ينشر الصحافي البارز إدوي بلنيل المدير السابق لجريدة «لوموند» والمدير الحالي للجريدة الرقمية ذات التأثير الواسع «مديبار» كتابا ضد التيار في فرنسا بعنوان «من أجل المسلمين» يدعو فيه الى معالجة موضوعية لإشكالية الإسلام بعيدا عن التوظيف السياسي واعتبار المسلمين الفرنسيين مصدر غنى للبلاد. ويثير الكتاب جدلا سياسيا كبيرا في الأوساط الإعلامية والسياسية بسبب جرأته.
والكتاب الصادر خلال شهر آب/أغسطس الماضي عن دار النشر «لاديكوفيرت» يقتحم النقاش الواسع حول الإسلام في الغرب سياسيا وفكريا. إذ أضحى الإسلام عنصرا رئيسيا في الخطابات السياسية تحت عنوان إشكالية عريضة وهي «دمج المسلمين في المجتمعات الغربية» وكذلك في السياسة الدولية باعتبار أنه مصدر تهديد إرهابيا بسبب حركات متطرفة مثل القاعدة والدولة الإسلامية. وتتخذ معظم المواقف والأطروحات منحى سلبيا للغاية يعمق من الشرخ القائم بين العالم العربي- الإسلامي والغرب، وبالتالي كان يجب إطلاق صرخة قوية لضرب ترسانة من الأفكار المسبقة قبل أن تجر هذه الأفكار الشعوب الى المواجهة أو التسبب في اضطهاد مكون من مكونات مجتمع معين مثل المسلمين في فرنسا.
ويتبين من عنوان الكتاب الصرخة التي يطلقها على شاكلة تلك التي أطلقها الكاتب الشهير إميل زولا سنة 1896 «من أجل اليهود» و «أتهم» في جريدة «لوفيغارو» وندد بما يتعرض له الفرنسيون من أصل يهودي في المجتمع الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر، لكن في الوقت الراهن، فالضحايا هم المسلمون.
ويقول إدوي بلنيل مدير جريدة «مديبار» التي كشفت عن أغلب فضائح فرنسا السياسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة بما فيها فضائح الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، أن «الكتاب هو عبارة عن تضامن، صرخة وسط صمت لا يحتمل، أردت أن أمد اليد الى مسلمي فرنسا وسط أجواء من معاداة الأجانب التي من مظاهرها وصم الإسلام وتحميله كل المشاكل التي تحدث في فرنسا».
وعمليا، وعلى مدار الفصول العشرة التي يتكون منها الكتاب، وهو صغير الحجم لا يتعدى 120 صفحة، يدافع الكاتب عن الأطروحة الرئيسية والتي تتجلى في ضرورة معالجة موضوع من مثل الإسلام بمفاهيم حضارية منفتحة وحداثية وعدم ترك موضوع في مثل أهميته للتوظيف السياسي، وعدم ترك مجموعة من المفكرين المتعصبين أمثال آلان فينكيلكروت ورينود كاموس وإريك زمور يقدمون أنفسهم بمثابة مفكرين في مواجهة ما يعتبرونه «التغلغل الإسلامي في فرنسا ويتباهون بكونهم حراس الثقافة الفرنسية».
ويحذر الكتاب من الخطابات الفكرية لهؤلاء والتي تعيد الأطروحات القديمة في «بناء الآخر» الذي كان بعيدا جغرافيا ومن مظاهره البارزة «الآخر» الذي صنعه الاستشراق، ولكن هذا الآخر موجود الآن في أوروبا ويجري تشكيل قالب فكري وسياسي خاص لوضعه فيه. ورغم التنوع الإثني في أوروبا، فالآخر الذي تجري بلورته بل تطوير القالب الفكري الذي تمت صياغته له هو المسلم حاليا دون باقي الإثنيات أو المعتقدات.
وينتقد الكاتب المقولة التي يرددها الكثيرون وهي «يوجد في فرنسا مشكل اسمه الإسلام» التي قال بها الفيلسوف آلان فينكيلكروت. وهي المقولة التي استفزت إدوي بلنيل لكتابة مقال شديد اللهجة حوله الى كتاب لاحقا بطلب من مفكرين وصحافيين وأصدقاء لمواجهة المتعصبين العلمانيين.
ويعتقد بلنيل أن من يردد هذه المقولة يضع فرنسا بالكامل في مواجهة ديانة يؤمن بها مئات الملايين وهي في الوقت نفسه ديانة جزء من مواطني فرنسا. ولا يخفي تعاطفه مع من يسميهم «مواطنو فرنسا الذين يعتنقون الإسلام» والذين يجري تقديمهم كـ «كبش فداء» للكثير من المشاكل التي تمر منها البلاد وخاصة تلك المرتبطة بقضايا اجتماعية وسياسية شائكة.
ويعتمد الكتاب كثيرا على المقارنة التاريخية بين وضعية اليهود ووضعية المسلمين في فرنسا. واعتمادا على استطلاعات الرأي حول العنصرية ونتائج تقرير اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان في هذا البلد الأوروبي، لا يتردد في التأكيد على أن «وضعية المسلمين الآن ومنهم المغاربيون شبيهة بوضعية اليهود قبل الحرب العالمية الثانية أي الإضطهاد والملاحقة والتعسف». وإن كان الكاتب لا يتحدث عن الاعتقالات والملاحقة الأمنية على شاكلة الماضي، فيركز على الملاحقة السياسية والاجتماعية في وصم الإسلام والمسلمين وتحويلهم الى أقلية تمثل عالة على المجتمع الفرنسي بل وتهدد هويته.
ويلخص هذه الملاحقة في استشهاده بالمؤرخة والباحثة فاليريي إغونيت التي تقول «سياسيا، أصبح هدف الجبهة الوطنية هو المسلم بدل اليهودي». وتضيف أن بناء السياق العام للجدل القائم حول الإسلام قد جرت صياغته في أطروحة «الإسلام خطر على قيم فرنسا العلمانية». وهذه الصيغة تسمح بمناقشة الهجرة وأساسا هجرة المسلمين بدون السقوط في خرق القانون الذي يمنع نقاشات مستفزة حول الهجرة تفاديا للعنصرية. وبالتالي، فالادعاء بالمحافظة على «الاستثناء الفرنسي» وعلى «قيم الجمهورية» هو مدخل ووسيلة لبعض المفكرين والسياسيين للترويج للأفكار المتعصبة تجاه المسلمين مع ضمان الإفلات من الملاحقة القانونية بسبب تفادي توجيه نقد مباشر للهجرة.
ويحذر الكاتب بصوت عال من تحول فرنسا، وسط يمين متطرف ومحافظ مفتت ويسار بدون بوصلة، الى ساحة مباحة للجبهة الوطنية المتطرفة بزعامة ماريان لوبين التي ترغب في الإنقضاض على السلطة في البلاد من خلال استحضار النقاش حول الهوية «وهو النقاش الذي خلف مآس في القرن الماضي».
ويوجه الكاتب نقدا شديدا للطبقة السياسية، ولا يتوقف فقط عند الجبهة الوطنية ذات الخطاب المتطرف، بل كذلك عند الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي أرسى مفهوم تفاوت الحضارات فيما بينها، منعشا أطروحات مثل «صدام الحضارات» على حساب الإسلام. وفي الوقت ذاته، يعتبر رئيس الحكومة الحالي مانويل فالس مساهما في استمرار هذه الأطروحة والنهج بطرحه السنة الماضية عندما كان وزيرا للداخلية التحديات التي تواجه فرنسا سنة 2025، وحصرها في النمو الديموغرافي للمهاجرين الأفارقة، والتناقض بين الإسلام والديمقراطية وأخيرا مسألة التجمع العائلي للمهاجرين.
ولهذا يقول المؤلف أن العنوان يكشف مضمون الرسالة التي يرغب في توجيهها للرأي العام الفرنسي والغربي ويؤكد «عنوان الكتاب هو ضد التيار» ويضيف «يمكن ترجمة عنوان الكتاب بآخر وهو من أجل فرنسا أو من أجل الأقليات».
وعموما، يركز كتاب بلنيل على ثلاث نقاط جوهرية لفهم الإسلام الفرنسي وتجاوز الأحكام المسبقة، وهي نقاط يسيطر عليها المؤلف في الندوات التي يقيمها حاليا، وهي: أولا أن الديمقراطية ليست قانون الأغلبية، في إشارة الى سن قوانين تمس التعايش وتمس حقوق الأقليات. والنقطة الثانية هي ضرورة فهم الهوية في إطار شامل، وهي الهوية – العلاقة بشأن انتماء الوطن الى فضاء واسع يتكيف ويستوعب مختلف الثقافات وليس هوية جامدة، حيث ينادي برؤية فرنسا متعددة ومتنوعة بمثابة «فرنسا ابنة الكنيسة، وبلد نانت والذي يضم أكبر نسبة من مسلمي فرنسا وأكبر جالية يهودية في أوروبا وبلد العلمانية وبلد التلاقح، كل هذا يشكل فرصة لفرنسا». ودعوته للتلاقح نابعة من تربيته ومساره والمجتمعات المتعددة التي عاش فيها، فقد ولد في جزر المارتينيك الفرنسية وتربى في الجزائر بعد الإستقلال والتحق بفرنسا وهو شاب.
وللدفاع عن هذا التلاقح وعن فرنسا المتعددة والغنية إثنيا وهوياتيا، يحذر ويطالب بضرورة الإبتعاد عن سيناريو تكرار أمثلة تاريخية وسياسية هي بصدد العودة الى تأسيس خطاب الحقد ضد من يعتبرهم «مسلمي فرنسا الذين يشكلون جزءا من الشعب الفرنسي».
والنقطة الرئيسية الثالثة تتجلى في التحذير من صراع الحضارات في شكل آخر عبر وصم الإسلام بأن هدفه سيكون مواطني فرنسا الذين يعتنقون الإسلام، لاسيما وأن أنبياء الحقد فكريا يتكاثرون.
وإذا كان الكاتب يستعرض في جل كتابه المقارنة التاريخية بين مآسي الأمس التي وقعت لليهود وما يتعرض له الآن مسلمو فرنسا للتنبيه والتحذير من عودة التاريخ، فإنه ينهي كتابه بمثال تاريخي آخر ولكن يدعو الى توخي الذكاء ومواجهة الظلام. يستقي مثاله من العدد الأول من المجلة الإبداعية «تروبيك» سنة 1941 للشاعر إيمي سيزير التي صدرت إبان الحرب العالمية الثانية ويقول فيها «أن الظلام سقط على أوروبا، الظلام يسيطر في كل مكان…ولكن نحن سنقول لا للظلام، فالأرض ستحيا بنا». ويكرر الكاتب المقولة نفسها طالبا من الفرنسيين أن يطلقوا صرخة في وجه «الظلام الذي يريد وصم مسلمي فرنسا».
وعمليا، كتاب «من أجل المسلمين» هو صرخة مفكر وإعلامي حر، إدوي بلنيل ضد ظلام أنبياء الحق الذين يختبئون وراء ما يدعون أنه قيم الجمهورية الفرنسية.
Edwy PLENEL: Pour les musulmans
La Découverte, Paris 2014
135 pages