ما معنى أن تكون وزيرا ومعارضا لنفس الحكومة التي تنتمي إليها؟ مثل هذه الحالات الشاذة والغريبة نجدها في المغرب، بلد “الخصوصية” و”الاستثناء” في كل شئ. ففي الفترة الأخيرة انتقد وزير العدل والحريات المغربي مصطفى الرميد، منع جمعيات المجتمع المدني المعترف بها من ممارسة أنشطتها في الفضاءات العمومية، ومطالبتها بتصريح مسبق. ووصف الوزير هذا المنع بأنه “غير شرعي”، وبأن “الواقفين ورائه يشتغلون خارج الشرعية”. لكن ما لم يقله وزير العدل والحريات، أن الواقفين وراء المنع هي وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية النافذة التابعة للحكومة.
يتعلق الأمر بعدة أنشطة لمنظمات حقوقية مغربية ودولية، من بينهما “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، و”العصبة المغربية لحقوق الإنسان”، و”الحرية الآن، للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في المغرب”، وأنشطة لفرع “أمنستي المغرب”. وكلها أنشطة تم تمنعها مؤخرا في أكثر من مدينة مغربية بقرارات من وزارة الداخلية الخاضعة لرآسة الحكومة التي يقودها الحزب الذي ينتمي إليه وزير العدل والحريات، المعارض داخل حكومة يقودها حزبه!
وقبل انتقادات وزير العدل والحريات، شن زميلة في الحكومة والحزب، مصطفى الخلفي، وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة، أكثر من مرة هجوما حادّا على مسؤولي القنوات التلفزيونية والإذاعية العمومية، بسبب “عدم مراعاة ما ثبتّه من برامج ومسلسلات مع القيَم والأخلاق السائدة في المجتمع المغربي”، للتذكير فقط أن من يقترح تعيين هؤلاء المسؤولين على رئيس الحكومة هو الوزير نفسه الذي تقع أجهزة الإعلام العمومي تحت وصايته!
انتقاد آداء الحكومة أو بعض أجهزتها لم يأت من وزراء فقط وإنما جاء أيضا من رئيس الحكومة نفسه الذي حَوَّل نفسه إلى خصم لموظفة داخل تلفزة عمومية، عندما استغل ذات مرة منصة البرلمان لمهاجمتها. لكن الموظفة استمرت في مهمتها، وفي توظيف القناة العمومية التي تشرف على برامجها السياسية للهجوم على الحكومة ورئيسها، ليس لأن المغرب يتمتع بحرية صحافة كبيرة، ولا لكون التلفزة العمومية مستقلة عن الحكومة وعن رئيسها، وإنما لأن هذه الموظفة شأنها شأن كبار موظفي الإعلام العمومي، أو بالأحرى “الرسمي” ، يدينون بالولاء أولا وأخيرا إلى الجهات التي عينتهم، وهي جهات خارج المحاسبة والمساءلة، إنها نفس الجهات التي تقمع وتمنع وتوظف الإعلام العمومي للهجوم على الحكومة نفسها، وفي كلمة واحدة إنها الجهات التي تحكم فعليا، وهي جهات تابعة للقصر صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في القرارات الحساسة والمهمة في المغرب.
هذه النماذج، هي مجرد غيض من فيض عن الأمثلة الكثيرة على تحول وزراء إلى “معارضين” و”نقاد” و”ملاحظين” للتدخلات السافرة في آداء وزاراتهم وحكومتهم من طرف جهات لا يجرؤون حتى على تسميتها. وهذه الحالة ليست جديدة في المغرب، فقط كان الوزراء في الحكومات السابقة يبتلعون ألسنتهم ويلوذون بالصمت. وكما كان يقول أحد وزراء فرنسا الاشتراكيين السابقين السابق، بيير شوفنمان، فإن “على الوزير أن يغلق فمه، وإذا ما قرر فتحه فليقدم استقالته”، أي أن الوزير الذي يريد أن يفتح فمه لانتقاد الحكومة التي ينتمي إليها فعليه أن تكون له الجرأة أيضا ليقدم استقالته منها. لأنه لا يعقل أن يظل يتمتع بمزايا الوزارة وشرف المعارضة.
وفي الوضع المغربي، الحالة الوحيد التي تجرأ فيها وزير على فتح فمه أثناء انعقاد مجلس وزاري برآسة الملك، حدثت عام 2002، عندما سئل وزير الدولة آنذاك محمد اليازغي الملك محمد السادس عمن أعطى الأمر لعناصر من قوات خفر السواحل المغربية للنزول على صخرة “جزيرة ليلي”، التي تحتلها اسبانيا على مرمى حجر من سواحل البحر الأبيض المتوسط المغربية، مما كاد أن يؤدي إلى حرب بين اسبانيا والمغرب، لولا توسط الولاية المتحدة الأمريكية، فما كان من الملك إلا أن رد على وزيره مستعيرا نفس عبارة شوفنمان “أٌصمٌت أو إِستقِيل”، فما كان من الوزير إلا أن لاذ بالصمت لسنوات، ليعود هذه الأيام ويفتح فمه مجددا، لكن لينتقد عهد الملك الراحل، وبعد خمسة عشر سنة على وفاته!
في علم النفس تعتبر هذه الحالات أحد أعراض انفصام الشخصية (شيزوفرينيا)، وفي المعتقد الديني نرقى هذه التصرفات إلى حالة النفاق التي تنبذها الشرائع السماوية، أما في أدبيات السياسية فهي تكشف عن حالة عجز يدفع المسؤول إلى تبرير جبنه باستباق انتقاد فشله. أما حالات الجبن التي يلوذ أصحايها بصمتهم فتلك لا تحتاج إلى التحليل وإنما إلى الإشفاق على أهلها، لأنه أصبح ميؤوس منها!