شكلت حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله منعطفا في تاريخ الصراع الإسرائيلي-اللبناني، لم تعد إسرائيل تجرأ على مهاجمة هذا البلد. وبدأت مؤشرات عسكرية وسياسية تؤكد أن الاعتداء الحالي على قطاع غزة سيأخذ هذا المنحنى مستقبلا، سيناريو 2006، ومن المحتمل أن يكون آخر هجوم إسرائيلي وبداية الانتقال الى وضع جديد سيدفع تل أبيب لا محالة الى التفكير في إيجاد صيغة قانونية جديدة للدولة الفلسطينية للحصول على توازن “الهدوء مقابل الهدوء”.
وعمليا، انتهت حرب يوليوز 2006 التي خاضها حزب الله اللبناني لوحده بإرساء “ثقافة تجنب الحرب” بين لبنان وإسرائيل بعدما تبين لقادة تل أبيب الفاتورة العسكرية والبشرية والسياسية الثقيلة والمرتفعة لكل هجوم جديد. فلأول مرة، تعرضت إسرائيل سنة 2006 لهزيمة عسكرية نسبية وهزيمة معنوية تاريخية بكل المقاييس، فقد تكسرت هيبة الجيش الذي لا يقهر أمام حركة مسلحة مثل حزب الله. وحدث هذا في وقت توصل حزب الله بالدعم فقط من سوريا وإيران بينما كانت الجهبة العربية الكلاسيكية ضده.
وتميزت تلك الحرب باستراتيجية صواريخ حزب الله في مواجهة الطيران المدفعية الثقيلة الإسرائيلية. ولم يقدر الجيش الإسرائيلي بما فيه القوات الخاصة التقدم نحو العمق اللبناني بعدما وجد مقاومة شرسة لم يعهدها منذ الأربعنيات بما فيها مقاومة الجويش العربية الكلاسيكية مثل المصري والسوري.
وحركة حماس ليست بحزب الله الذي يمتلك ترسانة ضخمة من الصواريخ، هذا الأخير استفاد من وجود حدود مفتوحة مع سوريا وعبرها عبر إيران. ورغم هذا الاختلاف في امتلاك القدرة العسكرية، فحركة حماس، التي ليست بالجيش الكلاسيكي، بدأت تفرض واقعا مشابها لسنة 2006 من عناوينه إجبار إسرائيل على طلب الهدنة أو توقيف العدوان. ومن مفارقات التاريخ، أن الجبهة الكلاسيكية العربية التي كانت ضد حزب الله سنة 2006 تصطف الى جانب إسرائيل في مواجهة حماس.
ويجمع الخبراء في الحروب الجديدة ومنهم قادة إسرائيليين أن حركة حماس شكلت مفاجئة حقيقية بفضل تنفيذها لما يسمى “ثقافة إيران العسكرية” القائمة على إيجاد “توزان رعب” بفضل الصواريخ. فقد أصبح حزب الله يغطي إسرائيل بالصواريخ وأصبحت حركة حماس تهدد جزءا كبيرا من أراضي إسرائيل، ويبقى العنوان البارز في النزاع هو توقيف حركة الملاحة الجوية في مطار تل أبيب، وهو انتصار معنوي يحمل طابع المنعطف.
وتحدث هذه المفاجأة بصواريخ تقل قدرة عن صواريخ حزب الله بسبب الحصار المفروض على قطاع غزة وغياب خبراء لتطويرها. لكن رغم هذا، فهذه الصواريخ جعلت إسرائيل لا تتقدم كثيرا في العمق الفلسطيني في قطاع غزة، وتعوض ذلك بقوة نارية وحشية للغاية من مخلفاتها مقتل أكثر من1600 مدنيا فلسطينيا. وتمارس إسرئيل الحرب وفق مفهوم الحرب القديمة في العصور الوسطى التي كانت تهدف الى “هلاك الحرث والنسل”، ويحدث هذا من دولة تدعي أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
وتدرك إسرائيل أنها في هذه الحرب تواجه تواجه كوماندوهات فلسطينية على مستوى عال من التدريب حملت معها مفاجأة الانزال البري من خلال أنفاق أرضية، وهي تقنية جديدة تخلق رعبا حقيقيا وسط إسرائيل وقوات الجيش بعدما تبين أن أغلب الجنود ماتوا بهذه التقنية وتقنية القنص الجماعي عبر الفخ العسكري.
وهذه أول مرة، يسقط عشرات الجنود الإسرائيليين في مواجهة حماس بعدما كان الأمر لا يتعدى العشرة في المواجهات السابقة، فحتى بداية الأسبوع الجاري، يجري الحديث عن أكثر من سبعين، وقد يكون العدد فاق المائة عندما ستترب الأرقام الحقيقية خلال الأسابيع أو الشهور المقبلة. فخلال حرب تموز 2006، تسربت الأرقام الحقيقية لاحقا وكانت مهولة.
ولا ينحصر الأمر فقط على الخسائر العسكرية والبشرية نتيجة مقاومة حماس بل تخسر إسرائيل لأول مرة تعاطف الرأي العام العالمي بشكل غير مسبوق. فقد سجل العالم منذ بدء العدوان أكثر من 300 تظاهرة أغلبها في العالم الغربي وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي غير العربي، أي باكستان وأندونيسيا وماليزيا ضمن دول أخرى. وأقدمت عدد من دول أمريكا اللاتينية على سحب سفراءها من تل أبيب، هي ضربة دبلوماسية قاسية. وهذه التظاهرات ستترجم لاحقا الى ملاحقة قضائية لقادة إسرائيل أمام القضاء الدولي في سيناريو شبيه لما كان يحدث السنوات الماضية.
وإعلاميا، ينهزم اللوبي اليهودي في الاعلام الدولي أمام قوة شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت حاسمة في تشكيل الوعي السياسي عالميا، وهنا تخسر إسرائيل بفارق كبير أمام الفلسطينيين. إذ لا يمكن للمواطن الغربي التعاطف مع إسرائيل في وقت تجوب فيه صور أشلاء الأطفال الفلسطينيين مختلف برامج التواصل مثل الفايسبوك والجرائد الرقمية في شبكة الإنترنت.
وهذا يترتب عنه ضغوطات على حكومات الغرب لتكون أكثر إنصافا. ويبقى المثال البارز في هذا الشأن هو موقف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولند الذي سارع بالانحياز الى إسرائيل ثم ما لبث أن تراجع مراهنا على نوع من التوازن والاعتدال أمام قوة الرأي العام الذي انتقده بشدة على هذا الانحياز.
تدرك إسرائيل أن اي مواجهة مستقبلية مع حركة حماس ستؤدي الى خسائر غير متعودة عليها (إسرائيل) سياسيا وبشريا وعسكريا، فثقافة الصواريخ تتغير، فصواريخ حماس أمس كانت بدائية والآن متطورة نسبيا ومستقبلا ستكون موجعة جدا. وهنا يتكرر سيناريو نتائج الحرب مع حزب الله سنة 2006 وأبرزها تجنب إسرائيل شن عدوان جديد ضد هذا البلد لإدراكها بالفاتورة المرتفعة سياسيا وعسكريا التي يجب أن تؤديها والتوجس من الانهيار التدريجي لمعنويات جيشها أمام حركة تطبق حرب العصابات.
وتحت ضغط وقوة المعطيات الجديدة، قد تبدأ إسرائيل منذ انتهاء هذا العدوان على القطاع في التفكير الجدي في صيغة قانونية تتيح للفلسطينيين الحياة في الهدوء كما تتيح لليهود الحياة في هدوء. وقد تكون بداية التفكير الحقيقي ممثلة في قبول إقامة دولة فلسطينية عبر المفاوضات قبل قبولها عبر قوة السلاح و”ميزان الرعب”.
كل هذه التطورات، تدفعنا الى القول أننا ربما أمام آخر الحملات العسكرية ضد قطاع غزة.