على غير العادة يبدو الدور السعودي باهتا لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة. وطيلة هذا الهجوم الهمجي الذي حصد أرواح مآت الضحايا وتسبب في إصابة آلاف الجرحى أغلبهم من المدنيين وغالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، ظل الصوت السعودي خافتا إن لم نقل متفرجا. فعند بداية الهجوم اكتفت الرياض بتأييد المبادرة المصرية لوقف القتال في قطاع غزة، والإعلان عن إرسال مساعدات مادية للفلسطينيين.
وأول موقف رسمي سعودي أدان على خجل الجرائم التي تقوم بها إسرائيل في غزة صدر بعد مرور أسبوعين على بداية العدوان على لسان مندوب السعودية في الأمم المتحدة، الذي وصف ما تفعله إسرائيل بـ “جرائم الحرب المخزية”.
هجوم إعلامي سعودي على “حماس”
لكن ما لم يفصح عنه الموقف الرسمي السعودي، عبرت عن الصحف السعودية بوضوح عندما حملت حركة “حماس” مسؤولية الهجوم الإسرائيلي على غزة. فقد كتبت صحيفة “الرياض” أن “المشكلة ليست في عدوانية إسرائيل.. لكن المشكل الحقيقي من تٌحاور من الفلسطينيين، حماس التي تسيطر على غزة، وهي من قامت بخطف الشباب الإسرائيليين الثلاثة، وبدلا من المساومة عليهم لإخراج عدة آلاف من المسجونين تَمَّ قتلهم، وهي خطوة انتظرتها إسرائيل لتهاجم غزة”.
وعلى نفس النحو كتبت صحيفة “الوطن”، السعودية، أن رفض الفصائل الفلسطينية للمبادرة التي قدمتها القاهرة منحت إسرائيل “شَرعية” تدمير القطاع. من جانبها انتقدت صحيفة “عكاظ” ما وصفتها بـ “مقايضات” “حماس” التي “توفر مبررات كثيرة لعدو يتربص بالشعب الفلسطيني”.
تناغم سعودي إسرائيلي
هذا الهجوم الإعلامي السعودي على “حماس”، ليس جديدا، فالعلاقات بين السعودية و”حماس” تمر بحالة فتور منذ فترة طويلة، إذ تحمل الرياض حركة المقاومة الإسلامية في غزة مسؤولية إفشال “اتفاق مكة” بين الفلسطينيين الذي أبرم تحت رعاية سعودية عام 2007. ودخلت هذه العلاقات مرحلة القطيعة مع وصول رئيس إسلامي إلى هرم السلطة في مصر، ينتمي إلى تنظيم “الإخوان المسلمين”، الذي تنتمي إليه “حماس” وهو التنظيم الذي تضعه السعودية على قائمة التنظيمات الإرهابية.
وللمفارقة، فإن هذا الموقف السعودي يتناغم إلى حد كبير، مع تصريح الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز، الذي كان قد اعتبر أن إسرائيل لم تعد مشكلة بالنسبة للدول العربية بل “الإرهاب العربى” خصوصا “حماس”، التى باتت تمثل مشكلة بالنسبة لمصر، على حد قوله. وبحسب ما نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” في يناير 2014، فقد امتدح بيريز ما أسماها بالحرب التى تشنها مصر ضد “حماس” في قطاع غزة مضيفا بأنه فى مواجهة “حماس”: “كنا وحدنا، لكننا الآن لم نعد بمفردنا”.
هل باركت السعودية العدوان على غزة؟
كان هذا على مستوى قراءة التصريحات وتحليل المواقف، أما على مستوى الوقائع فقد كشف الكاتب البريطاني ديفيد هيرست أن الاعتداءات الإسرائيلية على غزة جاءت بتفويض ملكي سعودي. وكتب هيرست في مقال بموقع “ميدل إيست آي” البريطاني: “ليس سراً في إسرائيل أن الهجوم على غزة أتى بمرسوم ملكي سعودي”.
وحسب نفس الكاتب فإن “السعودية أرادت مع مصر (من خلال هذا العدوان) ، أن تٌلحق بالمقاومة في غزة ضربة كبيرة تجبرها على الاستسلام والقبول بشروط التسوية في وقف إطلاق النار، والسلام مستقبلاً، من باب مبادرة السلام العربية”.
مفاجئة “حماس”
لكن، ما لم يرد في حسبان من خططوا لهذا العدوان هو صمود حركة “حماس”، لذلك سيكون من اللافت، حسب مصادر سعودية، أن يطلب الملك السعودي من الأمير القطري، خلال لقائهما الأخير، أن تظل قطر بعيدة عن موضوع التهدئة في غزة، وأن تترك المهمة إلى مصر التي سبق أن قدمت مبادرة للتهدئة حظيت بقبول من السعودية ورفضتها “حماس” المسنودة من قطر.
فلم يعد خافيا اتهام مسؤولين مصريين لقطر بأنها هي من شجعت “حماس” على رفض المبادرة المصرية لمنع القاهرة، في عهد عبد الفتاح السيسي، من العودة إلى الواجهة كطرف مؤثر في القضايا الإقليمية. أما “حماس” فإنها تشعر، من جهتها، بالتهميش لأنها لم تٌشرك في صياغة بنود المبادرة المصرية بإيعاز من السعودية. وهناك شعور فلسطيني، خاصة لدى المقاومة، بأن تهميشها في مرحلة البحث عن تسوية، بل وحتى التوقيت والموافقة على العدوان على غزة، كلها أمور تخدم هذا التنسيق المصري السعودي مع إسرائيل الذي يحركه عدائهم إلى تنظيم “الإخوان المسلمين” و”حماس”.
تقارير اسرائيلية
وحسب تقارير إسرائيلية فإن القاهرة ليست وحدها من وافقت على شن عملية عسكرية لتدمير البنية التحتية لـ “حماس” بل أيضا الرياض ودبي. وطبقا لإدعاءات نشرها موقع “ديبكا” القريب من المخابرات العسكرية في إسرائيل، بتاريخ 15 يونيو الماضي، فقد زعم أن الرئيس المصري الحالي، الذي جاء إلى السلطة على إثر انقلابه على أول رئيس مدني منتخب، أعطى الموافقة المبدئية لإسرائيل لشن عملية عسكرية على غزة بهدف تدمير البنية العسكرية لـ “حماس” على خلفية دعم هذه الأخيرة لـ “الإخوان المسلمين”. لكن الرئيس المصري، وطبقا لإدعاءات نفس الموقع، كان يحتاج قبل أن يعطي ردا نهائيا لإسرائيل، إلى “الحصول على موافقة السعودية والإمارات اللتين تمولان نظامه وجيشه”.
وسيعود نفس الموقع”ديبكا” إلى نشر تقرير آخر في 8 يوليو الجاري، كشف فيه أن إسرائيل كانت تطمح ليس فقط إلى موافقة القاهرة بل في اشتراكها في العملية ضد قطاع غزة، مشيرا إلى أن إسرائيل: “أَمَلَت أن يتعاون السيسي معها ضد حماس”.
تنسيق سعودي إسرائيلي
وعودة إلى ما كشف عنه الكاتب البريطاني ديفيد هيرست في مقاله فإن: “مسؤولو الموساد والمخابرات السعودية كانا يلتقيان بصورة اعتيادية، فقد تباحث الطرفان عندما كان الرئيس الأسبق محمد مرسي على وشك أن يطاح به، وهما يتفقان تماما بشأن إيران، في الإعداد لضربة إسرائيلية باستخدام قاعدة جوية سعودية، وفي تخريب البرنامج النووي الإيراني..”. قبل أن يتساءل: “لماذا باتت السعودية وإسرائيل مترافقتين على هذا النحو؟” ويجيب على نفسه: “لدى الدولتين خصوم مشتركين، مثل إيران وتركيا وقطر وحماس، والإخوان المسلمين في كافة أماكن تواجدهم..”، وهو ما سهل، حسب الكاتب، ما وصفه بـ “التعاون المفتوح والمشترك بين الدولتين”.
وعراب هذا التعاون، طبقا لنفس الكاتب هو الأمير تركي الفيصل، رئيس المخابرات السعودية السابق، الذي استبق قبل أسيوعين العدوان على غزة بكتابة مقال بصحيفة “هاآرياس” الإسرائيلية وضع فيه الفلسطينيين والإسرائيليين في خانة واحدة، لافتاً إلى أن كليهما يعيشان “مأساة إنسانية”، فـ”الفلسطينيون يعيشون تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي الظالم، وكذلك الإسرائيليون محاصرون في وضع سيزيد مع مرور الوقت من عزلتهم الدولية”. هذه المساواة بين الجلاد والضحية هي نفسها التي تضمنتها “المبادرة المصرية” ورفضتها قوى المقاومة وما زالت تتمسك بها القاهرة والرياض اللتان تلعبان أدوارا غير مفهومة في العدوان الحالي على غزة!
معادلة جديدة
ولكشف الخلفيات الحقيقية لكل اللاعبين الراقصين على أشلاء ودماء الفلسطينيين، يجب انتظار ما سيتمخض عنه هذا الصراع الإقليمي على المواقع. فقد بات من المؤكد أن العدوان الحالي على غزة سينتهي برسم معادلة جديدة لموازين القوى في المنطقة. ومن الآن بدأت ملامح معادلة المستقبل تتضح من خلال محور إيران وسورية والمقاومة في لبنان من جهة، وتركيا وقطر و”حماس” من جهة، ومصر والسعودية من جهة أخرى. وعلى الضفة الأخرى إسرائيل مدعومة بأمريكا تعملان على أن يٌحسم الصراع لصالحهما سواء على الأرض أو على طاولة المفاوضات التي سترسم ملامح المرحلة المقبلة على ضوء ما سيسفر عنه العدوان على غزة وما يتبلور في العراق وما يتفاعل في سوريا والمنطقة عموما.