تتعدد مصادر كتابة التاريخ، وتعتبر الصحافة مصدرا هاما للتأريخ، فهي سجل يومي لتطور دينامية المجتمعات بحكم متابعتها اليومية للأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية. والدول التي شهدت تأخر ظهور الصحافة وعدم تطورها تفتقد لمصدر هام لمعرفة تفاصيل هامة من تاريخها، ووقتها يجد المؤرخ نفسه يميل الى تأويل الأحداث لتغطية فجوات ناتجة عن الفراغ في المعطيات والمعلومات. ويجد بعض الباحثين، ومنهم المغاربة، في صحافة الدول الأجنبية فرصة لسد هذا الفراغ. وفي حالة العلاقات المغربية-الإسبانية، توفر جريدة لفنغورديا lavanguardia.com أرشيفا ممتدا على مدى 133 سنة.
التاريخ والصحافة: علاقة متكاملة
وعلاقة التاريخ بالصحافة من المواضيع التي تشذ انتباه واهتمام المؤرخين والباحثين في علوم الإعلام. وتتطور الكتابة التاريخية نحو التخصص الموضوعاتي، ولم تعد كتابة التاريخ كلاسيكية قائمة على سرد الأحداث الكبرى بل تحاول التأريخ للمجتمع في شموليته. وعلاوة على الأحداث الكبرى يجري رصد المنعطفات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وبقدر ما تلعب الدور المكمل لفهم التغيرات التاريخية بقدم ما تكون في حد ذاتها عملية تأريخ لمجالات غير السياسية والعسكرية.
وتقنية التركيب التاريخي عبر “تبويب التاريخ” وفق مواضيع وليس الاكتفاء بالسرد الكلاسيكي المتسلسل، ليست بالتقنية الجديدة بل هي نسخ للتبويب المعمول به في الصحف. فالجريدة بتبويبها المتعدد هي سجل يومي لأحداث المجتمع، الصفحة الوطنية ترصد أهم ما يجري في يوم أو أسبوع ويتكرر هذا مع الصفحة الاقتصادية والثقافية وأحوال المجتمع والرياضة. وحاول كتاب “تاريخ المغرب، تحيين وتركيب ” الذي أشرف عليه المؤرخ القبلي كتابة تاريخ المغرب عبر هذا التقنية في التأريخ.
ويقول بول جونسون، مارس الصحافة وانتقل الى التأريخ، “هدف الصحافة والتأريخ هو نفسه ، ينقلان للقارئ المعرفة والمعلومات ومحاولة شرح الأحداث…لا يمكن القول أين ينتهي عمل المؤرخ وأين يبدأ عمل الصحفي”. وعلى ضوء الفارق الزمني في رصد الأحداث، فالصحفي يؤرخ للحظة والمؤرخ يؤرخ للحقبة.
وإذا كانت الصحافة المغربية خلال العقود الأخيرة تلبي كمصدر تاريخي رغبة المؤرخ والباحث في التاريخ رغم شروط الرقابة، إذ يكفي مثلا قراءة جريدة العلم لكتابة تاريخ المغرب منذ الأربعينات حتى اليوم علاوة على صحف أخرى، فالأمر يختلف مع فترة ما قبل الحماية وحتى بعدها، حيث لم يكن المغرب يشهد صدور صحف. وهنا يصبح اللجوء الى الصحافة الأجنبية ضروريا لتغطية الفراغ.
جريدة لفنغورديا أرشيف مغربي حي
واهتمت الصحافة الأوروبية والأمريكية بالمغرب منذ القرن الثامن عشر، تاريخ بدء انتظام صدور الصحف بشكل يومي، ويمكن العثور على معطيات تاريخية هامة تغيب عن الميرخ المغربي بسبب غياب التدوين في الماضي، وخاصة تلك المتعلقة بالعلاقات الخارجية للمغرب.
وبعض الصحف الغربية ومنها الإسبانية والفرنسية والبرطانية التي تصدر منذ القرن التاسع عشر تشكل مصدرا لكتابة تاريخ المغرب وخاصة علاقاته الخارجية، وتزداد أهمية هذه الصحف بفضل تواجد مراسلين لها في المغرب. ولعل المنعطف هو حرب تطوان سنة 1860، حيث توافد على المغرب عشرات المراسليسن لتغطية الحرب المغربية-الإسبانية.
وتعتبر جريدة لفنغورديا الصادرة في برشلونة أرشيفا حيا حول وقائع كثيرة من تاريخ المغرب. فهذه الجريدة قد تأسست سنة 1881 وتستمر في الصدور حتى يومنا هذا (2014). ومن مميزات هذه الجريدة توفرها على أرشيف رقمي يضم أول عدد صدر يوم فاتح فبراير 1881 الى اليوم. وهذا يسمح بقراءة كل الأعداد أو الاعتماد على محرك البحث لرصد المعلومات المرجوة.
ومنذ نشر الجريدة أول مقال ورد فيه اسم المغرب وكان يوم 13 فبراير 1881 حتى اليوم، يقدم محرك البحث أكثر من 11 ألف مرة كلمة المغرب، ويأتي ذكر المغرب كمجرد إشارة في مقالات وأخرى يكون موضوع المقال. ويمكن البحث في موقع لفنغورديا عبر كلمات مختلفة مثل المغاربة، الريف ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، والسلطان مولاي الحسن الأول ومؤتمر الجزيرة الخضراء ضمن مصطلحات وكلمات ذات دلالة في تاريخ المغرب.
وما بين سنة 1881 الى 1956، أي تأسيس الجريدة الى تاريخ استقلال المغرب، غطت لفنغورديا معظم أحداث المغرب الداخلية ومعظم أحداث العلاقات المغربية-الإسبانية.
ويضم أرشيف هذه الجريدة مقالات مفصلة عن حروب الريف ومنها حرب مارغايو التي قتل فيها الجنرال الذي يحمل هذا الاسم، وتعتبر من اكبر المعارك التي انتصر فيها الريفيون على المغاربة.
وغطت بالتفصيل انتفاضة عمر الزرهوني الذي نعته المخزن ب “بوحمارة” ضد السلطان مولاي عبد العزيز الحكم، وأهم ما جاء في هذا الباب نوعية العلاقات التي ربطته بإسبانيا ورؤية الأخيرة لهذه الانتفاضة، ثم هزيمة الزرهوني على يد مولاي عبد الحفيظ.
وتواكب لفنغورديا بتفاصيل كثيرة مؤتمر الجزيرة الخضراء الى سقوط المغرب في يد الاستعمار سنة 1912.
وتعتبر مصدرا هاما لدراسة حرب الريف منذ ثمانينات القرن التاسع عشر الى العشرينات من القرن الماضي.
وفي الوقت ذاته، يسمح أرشيفها بتكوين صورة هامة حول دور المغرب في الحرب الأهلية الإسبانية سواء الاختلاف بشأن التعاطي مع هذا البلد أو مشاركة قوات مغربية في الحرب الأهلية تحت قيادة الجنرال فرانكو ثم لاحقا نوعية العلاقات حتى الاستقلال وخاصة شمال المغرب.
ويسمح أرشيف لفنغورديا بتتبع بناء الصورة الأسطورية للذين واجهوا اسبانيا في الريف لزعماء مثل الشريف محمد أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي.
وتبقى جريدة لفنغورديا بأرشيفها الكامل في شبكة الإنترنت مصدرا هاما لمعرفة كيفية تشكل صورة المغرب لدى الرأي العام الإسباني خلال 120 سنة الأخيرة والتي شهدت أحداث تاريخية كبرى مثل حرب الريف، ومصدرا للحصول على معلومات حول مواضيع وأحداث تاريخية غفلها المؤرخون خاصة المغاربة بسبب غياب المراجع حول حقب معينة، وستساهم في في استكمال رواية أحداث تاريخية يلفها الغموض.