كأنما يريدون (في تركيا) حكماً بلا معارضة، أو كأنما يريدون حكماً محصناً من المساءلة، وتكفيه التزكية ليعمل ولا حرج. هل هذا ما يريد الإسلاميون أن يرسموه عن أنفسهم وعن صورة النظرية السياسية الإسلامية بصفتها ديموقراطية مسلمة؟ وحتماً سيكون جوابهم على تساؤلي بالنفي، لكن المؤشر الثقافي لخطابهم يقول لي ولغيري إن هذه هي الخلاصة التي نخرج بها ومن تأملنا لحال الخطاب.
وقد بدأت الحكاية باتهامات في الفساد تمس رئيس الوزراء وبيته العائلي، ثم تطورت بحجب موقع «تويتر» و «يوتيوب»، ثم انتهت بلغة توعدية ضد الخصوم، وهذه كلها حدثت من رجل ديموقراطي وصل لموقعه عبر أصوات الشعب وكان رمزاً للنزاهة وحقق نجاحات اقتصادية كبرى، ولكن…!
يظل الرجل يعطي وجهين، أحدهما جميل وواعد يحمل صورة تمناها كل واحد منا في ضميره وفي تطلعاته بأن تكون لثقافتنا الإسلامية رمزية سياسية ديموقراطية، وكان رجب طيب أرودغان اسماً يحمل هذه الرمزية، لكننا صرنا نشهد وجهاً آخر للرمز، صدرت عنه تصرفات تنقض الصورة وتشوهها، حيت تخلط عملها الصالح بآخر سيئ. وهو رجل صار مثل عملة ذهبية لكن أحد وجهيها انطبع بصورة ديكتاتور من حيث كنا لا نرى، إلا صورة الديموقراطي الذهبي.
هنا تأتي اللحظة التي تكشف فيها صدقية الخطاب السياسي الإسلامي عبر جماهيره التي تشهدها على «تويتر»، أعني «تويتر» التي تعرضت للحجب على يد الزعيم الرمز، لكنها لا تزال مفتوحة للجمهور المناصر.
في مثل هذه الحال التي لم تعد افتراضية، لكنها واقع مؤلم بحق ستكون لك فرصة أن تقرأ الذهنية التأسيسية للمعنى الديموقراطي لجماهير النظرية السياسية الإسلامية، وأخص الجماهير لأنها هي ما يكشف لنا حال النظرية بصفتها قيمة تأسيسية أو فشلها في التأسيس، وهل ستمارس الجماهير المعنى الديموقراطي ومن قبله المعنى الإسلامي، والذي يقضي بوضع ميزان عادل بين الصواب والخطأ فيقوي الصواب وينقد الخطأ من أجل تصحيح المسار. وفوق هذا سيأتي السؤال الأخطر وهو: هل الولاء للأشخاص والأسماء أم للنظرية، أي النظرية الديموقراطية الإسلامية…؟!
تجربة النقاش المفتوح في «تويتر» ستكشف لنا عن حال لا تختلف عما ذكرناه في المقال السابق عن الإسلامية الشيعية، ولسوف ترى الإسلامية السنّية تجنح كزميلتها الشيعية بأن تنظر بعين الرضا والقبول للرمز، وسترى أن أي نقد له هو انحياز لأهل الباطل ضد البطل الرمز.
ولا بد لي من أن أؤكد مرة أخرى أن خطاب «تويتر» يكشف لنا حالة المعنى الديموقراطي عند الإسلاميين، خصوصاً أننا أمام أهم ركن في الديموقراطية وهو أقوى الأدلة على ديموقراطية أي خطاب، من حيث طريقة تعامله مع خصمه وطريقة تعامله مع الأزمات التي تمر على حكمه. وما لحظناه على أردوغان، من جهة، وعلى جماهير النظرية الإسلامية من جهة ثانية ينحصر في المآزق الثلاثة، وهي تهمة الفساد ثم حجب «تويتر»، ثم لغة التوعد للخصوم. فعلها أردوغان وانساق له الأنصار، ولو تركنا هذه تمر تحت مظنة أنها حال انفعال وردّ فعل، فإننا بهذا كمن يترك النار تحرق المكان من دون أن نكافحها وهي صغيرة، وإن الحرب أولها كلام – كما قال الشاعر القديم – وإذا قيلت كلمة الفساد فواجب اللغة في حينه أن تربط الحزام، إن كانت تؤثر الحق وتنحاز له.
ما نشهده من ثقافة ماثلة لا يبشر بوعي ديموقراطي، لكنه يكشف عن حزبية سالبة، ترى الحق معها حكراً واختصاراً، وتجنح إلى تبرير تصرفاتها وكأنها مخلّدة على الكرسي، حتى لتعتبر الفوز الانتخابي كأنما هو تسخير رباني، ولا تراه ظرفياً ومشروطاً ببرنامج يقوم على الوعد من جهة، وعلى المنجز الواقعي من جهة أخرى، ولو اختل أحدهما فسيأتي وعد آخر مختلف. ولن يتسنى للنظرية أن تمسك على توازنها ما لم تكن شفافة وتقوم على قبول المحاسبة، ولا تستهين بالتهم الخطرة كتهمة الفساد، وهي التي جرى تكذيبها وشتم القائل بها بمجرد سماعه وقبل أي تحقق، كما ليس لها أن تتصرف بحجب الحريات وتمنع الاتهام عنها بالقوة اللفظية وقوة القرارات، مع الاستعانة بالأنصار وحشدهم لقبول إجراءات منع الحريات، وهذا ما فعل أردوغان، في لحظة امتحان حساسة تكشف عن المعنى الديموقراطي وهل يصمد للنقد أم لا…؟!
إن كان أردوغان ظهر أمام العالم بوجهين، أحدهما ديموقراطي بامتياز والآخر ديكتاتوري بامتياز، فإن جمهور النظرية الإسلامية السياسية ظهر أيضاً بالوجهين نفسيهما، أي أنك على مشهد نموذجي لثقافة التطفيف.
ولنفترض أن «تويتر» و «يوتيوب» كانتا قد بثتا كلاماً عن فتح الله غولن باتهام له بالفساد المادي، فكيف سيكون الموقف…!؟ لنجرب أن نقول إن أردوغان لن يحجب «تويتر» ولا «يوتيوب»، وسيكون هذا تصرفاً صحيحاً، وفي حينه سنسأل مرة أخرى كيف يصح هذا مرة ولا يصح في أخرى…؟!
أولاً يكون هذا تطفيفاً…!
المحزن في أسئلتي هذه كلها أننا لسنا في حاجة إلى أجوبة، وهذا يعني أننا أصبحنا على بيّنة مطلقة من تصرف الزعيم والجماهير معاً. وهذا بالضبط ما يضرب النظرية في مقتل ويهدد مستقبلها ويقنطنا من الرهان عليها. هنا مكمن الخطر على النظرية السياسية الإسلامية، ما دام جمهورها الشيعي – كما في المقال السابق – والسنّي – كما هنا – لا يؤسس لمعاني العدالة مرتبطة بالمساواة والحرية والتعددية، ويهرع للانتصار للذات ولمنهجيته الخاصة، ولا يسعى إلى تأسيس المعنى التعددي، وهذا بكل تأكيد ليس علامة نجاح، ولا هو رهان مطمئن لمستقبل النظرية.
ثم كيف بالطرفين (السنّي والشّيعي معاً) أن يَضيقا بأي نقد يُطرح عليهما، ويرياه عدوانياً ويصفا صاحبه بأنه لا يرى سوى عيوب الصالحين ويغض الطرف عن المبطلين، وكأنهما يطلبان منك أن تكون مطففاً تقيس بميزان هنا وميزان هناك وتسكت هنا وتتشجع هناك.
هناك مشكل عميق مع ثقافة التطفيف، ومعاملة الذات بميزان خاص، وادعاء النزاهة لها، والحرص على تحصينها، ولن يكون لهذه النظرية من مستقبل مضمون ما لم تعالج نفسها وتعي عيوبها. وتعرف أن النقد هو الطريق الوحيد لكشف العلل، ومن ثم السعي إلى معالجتها، وستظل «تويتر» مضماراً يكشف حال الجمهور العريض وكيف يتمثل النظرية وكيف يترجم لغة الزعيم ويعيد تمثيلها وتمثّلها. والناتج للحالين هنا أنك سترى تشكلاً خطراً لذهنية حزبية وليس لذهنية ديموقراطية، وسترى أن الانتصار للحزب ولزعيم الحزب مقدم على كل شيء، حتى إنه يتقدم على القيم الأساسية للدين والمعاملة، بالتالي على الديموقراطية، ويسهل عليه أن يضحي بالحريات ويضحي بالتحقيق والتثبت، ويستسهل لغة التوعد للخصم، وكأن الذي على المنصة يملك من الحصانة ما يكفيه لأن يقول ويفعل ولا يسأله أحد عما يفعل ولا عما يقول، فهل هذا هو الحل الموعود والمأمول، هل نعود لتذكّر كلمة إبراهيم الخليل عليه السلام: أصلح عتبة بيتك، كررها وكررها إلى أن اعتدل البيت…!
وختاماً أنهي ملاحظاتي على الإسلام السياسي (الشيعي والسنّي معاً) بهذه الملاحظة النهائية، وهي:
كلما انتقدت «حزب الله» قال لك الشيعي: لم لا تنتقد الإرهاب…؟!
وكلما انتقدت أردوغان قال لك السنّي: لم لا تنتقد العلمانيين…؟!
حسناً… ألم تقولا معاً إنكما الوعد والحل…؟!
إذاً… أصلح عتبة بيتك…!