عن سن تناهز 81، رحل اليوم الأحد أدولفو سواريث رئيس الحكومة الإسبانية الأسبق والمهندس الحقيقي للانتقال الديمقراطي في اسبانيا، ويعتبر في الوقت ذاته، مؤسس العلاقات الثنائية مع المغرب بعد رحيل الجنرال فرانسيسكو فرانكو، وهي “دبلوماسية الغموض” التي تنهجها اسبانيا حتى وقتنا الراهن.
وأعلنت عائلة سواريث منذ ثلاثة أيام تدهور وضعه الصحي واحتمال وفاته في أي وقت، هو ما وقع في الساعات الأولى من مساء اليوم الأحد بعدما كان قد اختفى عن الأنظار والأضواء منذ أكثر من سنة بسبب إصابته بمرض الزهايمر، وكان الملك خوان كارلوس قد زاره سنة 2008، لكن رئيس الحكومة لم يتعرف عليه نهائيا.
ويرحل سواريث في وقت يعترف اليمين واليسار ومؤسسات البلاد بالدور الطلائعي الذي لعبه لإنجاح الانتقال الديمقراطي بعد رحيل الجنرال فرانسيسكو فرانكو سنة 1975، وجعل من الانتقال الديمقراطي الإسباني مالا يحتذى به حتى الآن.
مهندس الانتقال الديمقراطي في اسبانيا
وفي أعقاب وفاة الجنرال فرانسيسكو فرانكو الذي حكم البلاد بقبضة من حديد ما بين 1939 الى 1975، وجدت اسبانيا نفسها وقد تحولت الى الملكية ووسط دعاة المقاطعة مع النظام ودعاة الاستمرارية. ولتفادي الأسوأ، اختار الملك الشاب خوان كارلوس أدولفو سواريث يوم 5 يوليوز 1976 رئيسا للحكومة ليبدأ في تطبيق برنامج سياسي يصطلح عليه “القطيعة النسبية” لنقل اسبانيا من دولة ذات هياكل ديكتاتورية الى دولة ديمقراطية.
وكسب سواريث ثقة أنصار فرانكو، فهو كان وزيرا في حكومة الجنرال، وكسب ثقة الديمقراطيين لأنه كان تقنوقراطيا وبرغماتيا يتكيف مع التطورات. وقال لحظة تعيينه زعيم الشيوعيين سانتياغو كاريو “يبدو لي سواريث معتدلا ولا علاقة له بماضيه وزيرا في حكومة فرانكو، وقد يكون السياسي الذي سينقلنا الى الديمقراطية”.
ودشن سواريث حكومته بالعفو السياسي عن النشطاء السياسيين وأغلبهم من اليسار وامتد الى الباسكيين غير المتورطين في عملاتي القتل، وفتح حوارات سياسية مع زعماء المعارضة بمن فيهم زعيم الشيوعيين كاريو في وقت كان الحزب محظورا.
وتزعم سواريث حزب اتحاد الوسط الديمقراطي الذي سيفوز بفضله في أول انتخابات تشريعية في البلاد سنة 1977، وشكلت له قاعدة للإنطلاق في إصلاحات عميقة شملت ما هو سياسي واجتماعي وأمني وتوجت بالدستور سنة 1978 ولاحقا الحكم الذاتي. وكانت مشاريعه جريئة الى مستوى جعلت المحافظين في الجيش ينفذون انقلابا يوم 3 فبراير 1981 انتهى بالفشل، وشهورا بعد هذه المحاولة قدم استقالته وبدأ الانسحاب التدريجي من المعترك السياسي.
ويجمع مؤرخو الانتقال الديمقراطي في اسبانيا على الدور الطلائعي لسواريث في بناء الانتقال الديمقراطي، فقد اكتسب رؤية ثاقبة جعلته يراهن على القطيعة النسبية والتدريجية لبناء دول ديمقراطية. وقد نجح في هذه المهمة وجعل من الانتقال الديمقراطي مثالا يقتدى به.
مهندس العلاقات المغربية-الإسبانية بعد مرحلة فرانكو
رغم اهتمامه الفائق بإرساء آليات ديمقراطية لتطوير الديمقراطية الإسبانية الناشئة بعد وفاة الجنرال فرانكو، فقد وضع سواريث أسس العلاقات الدبلوماسية لإسبانيا الجديدة ومنها العلاقات مع المغرب. ومن خلال جرد لسياسة سواريث تجاه المغرب، وقفت ألف بوست على معطيات تؤكد أنه مهندس “دبلوماسية الغموض” بين مدريد والرباط والتي كان يقول عنها الوزير الأول السابق ووزير الخارجية والسفير المغربي في مريد سنة 1975، عبد اللطيف الفيلالي تجعلك تعتقد في “اسبانيا “الصديقة” ولكنها في العمق معارضة لمصالح المغرب، ولهذا كان الفيلالي يدعو الى الصرامة المطلقة مع مدريد، بما في ذلك خلال الندوة التي عقدها في الدار البيضاء سنة 2008 عندما قدم كتابه “المغرب والعالم العربي.
وعمليا، يعتبر سواريث رئيس الحكومة الإسبانية الوحيد الذي التقى زعيم البوليساريو محمد عبد العزيز رسميا، وكان ذلك خلال مايو من سنة 1979. ويعتبر مؤسس المحور الإسباني-الجزائري للرد على أي توتر مع المغرب، وهي السياسة التي لجأ إليها رئيس الحكومة المحافظ خوسي ماريا أثنار (1996-2004).
ووقعت مشادة كلامية قوية بين الملك الحسن الثاني وأدولفو سواريث خلال زيارة خاصة للملك الى اسبانيا في أواخر يناير 1978 بسبب غموض سواريث حول الصحراء. ووقعت المشادة في عشاء ليلة 28 يناير بحضور الملك خوان كارلوس والأمير مولاي عبد الله.وطالب الملك الحسن الثاني سواريث بنهج سياسة واضحة في ملفي الصحراء وسبتة ومليلية.
ولم يتبدد الخلاف بين الطرفين رغم زيارة سواريث للمغرب خلال يونيو 1978 الى فاس. وبينما كانت الرباط تعتقد في كسب تعاطف سواريث في الصحراء، زار سواريث الجزائر واستقبل فيها زعيم البوليساريو يوم 1 مايو 1979، ليكون رئيس الحكومة الإسبانية الوحيد الذي استقبل وهو في السلطة زعيم هذه المنظمة التي تنازع المغرب السيادة على الصحراء.
وإذا كان اليمين المنتمي الى فرانكو غداة وفاته رغب في تسوية النزاعات الترابية مع المغرب، وترجم ذلك بالتوقيع على اتفاقية مدريد مسلما الصحراء الى المغرب وموريتانيا ، وأعرب عن رغبته في إيجاد حل لنزاع سبتة ومليلية، فوصول سواريث الى الحكم أنهى هذه السياسة وراهن على الغموض، وهو الغموض الذي يستمر الى اليوم في تعاطي مدريد مع الرباط.