أقدم المغرب على إلغاء محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ويخلف القرار جدلا حول التوقيت وارتباط ذلك بأحداث مخيم أكديم أيزيك والقرار المقبل لمجلس الأمن الدولي حول الصحراء والضغط الدولي. وبغض النظر عن صحة الجدل من عدمه، يبقى القرار شجاعا بالنظر لانعكاساته على المغرب مستقبلا.
وإذا كان القرار لبنة في بناء دولة الحق والقانون التي يتطلع إليها المغاربة ويناضلون ويضحون من أجلها، فالواقع ومصالح البلاد تتطلب خطوات أخرى شجاعة لاسيما وأن المغرب يواجه تحديات كبرى تهدد وحدته الترابية، ولعل جزء من هذه التحديات ناتج عن أخطاء فادحة الأجهزة الأمنية أو السياسة الأمنية عموما التي كلفت ولا زالت تكلف الكثير.
لقد أقدم ما يسمى “بالعهد الجديد” على إصلاح نسبي للخروقات الإجرامية التي وقعت في الماضي من خلال فلسفة “هيئة الأنصاف والمصالحة”، ولكن دون أن يقوم بمحاسبة المتورطين في تلك الخروقات ، وهو الآن يتردد في الاعتراف بالخروقات التي لا زالت تقع في الوقت الراهن رغم تراكم التقارير الدولية من دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وكذلك الأمم المتحدة والجمعيات الكبرى مثل أمنيستي أنترناشنال والوطنية مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والعصبة المرغبية لحقوق الإنسان.
بل ولم يتردد الملك محمد السادس في حوار أجرته معه جريدة الباييس خلال يناير 2005 في الاعتراف بوقوع خروقات وتجاوزات. لكن العقلية الأمنية المهيمنة على السلطة و مسؤوليها تجعلهم يستعملون ورقة الإرهاب الفكري ضد كل من طالب بإصلاح حقيقي للخروقات. هؤلاء المسؤولون قد يُسألون على هذا النحو: هل حينما اعترف الملك محمد السادس بوجود تجاوزات في اعتقال السلفيين هل كان هو أيضا محاميا للإرهاب؟
إن الإرهاب الفكري يتم فقط في بلد تكون أجهزته الأمنية بدون مراقبة سياسية، وعاش المغرب هذا الإرهاب مع تجربة المسؤولين الأمنيين السابقين مثل الجنرال أوفقير والدليمي وإدريس البصري والعنيكري، ويرغب البعض في إحياءه حاليا.
وسيرا على الإٌصلاح الذي ينادي ويناضل من أجله الشعب، فقد حان الوقت لتصبح الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في المغرب ومنها المخابرات المدنية تحت المراقبة القضائية لسلطة القضاء و المراقبة السياسية للبرلمان.
والدول التي عانت من ويلات خروقات حقوق الإنسان في الماضي أقدمت على إصدار قانون خاص ينظم عمل أجهزتها الاستخباراتية ويراقبها. وهناك عشرات الأمثلة في دول مثل البرتغال واسبانيا بعد الانتقال الديمقراطي ودول أمريكا اللاتينية مثل الأرجنتين والبرازيل والتشيلي بل حتى في دول تشق طريقها نحو الديمقراطية مثل تونس. وتصبح لجنة برلمانية مصغرة بتنسيق مع الحكومة هي التي تشرف على أجندة المخابرات تماشيا مع مصالح البلاد، وفي الوقت نفسه، تعمل هذه الأجهزة تحت إشراف قاض لتفادي التجاوزات والأخطاء.
وبدون شك، لو كان قاضي يشرف على المخابرات المغربية، لما وجدنا الاتهامات توجه الى مدير المخابرات عبد اللطيف الحموشي من القضاء الفرنسي. وبدون شك سوف لن يجد المغرب الرسمي نفسه أمام هذا السيناريو الغرائبي من الانخراط في مكافحة الإرهاب مع الغرب ثم يصبح لاحقا مشتبها فيه ومتهما بالتعذيب وملاحقا من قضاء هذا الغرب. هذا الوضع له تداعيات على نفسية المسؤولين المغاربة الذين قد يدفعهم الى ارتكاب أخطاء ومنها كما حدث في الماضي، حملات إعلامية هستيرية لتبييض أنفسهم. وتجربة البصري ونوع من الصحافة معروفة لدى الرأي العام ويبدو أن هذه التجربة الهستيرية تتكرر في الوقت الراهن وإن كانت بشكل كاريكاتوري لأن تصورات الماضي لم تعد تنفع في الحاضر.
لقد اعترف وزير العدل المغربي مصطفى الرميد ليلة الأربعاء 19 مارس 2014 أن قرار تفضيل الصحراء حقوقيا أملته التحديات التي يواجهها المغرب في الصحراء، لكن هذه التحديات ستظل حاضرة طالما لم يتم مراقبة جهاز المخابرات الذي توجه إليه اتهامات بشن حملات إعلامية هستيرية وانتقامية واتهامات بتورطه في التعذيب، حيث أصبحت هذه الاتهامات نقطة ضعف أمام المنتظم الدولي وتجد الدولة المغربية كل مرة تقدم تنازلات. وضع المخابرات تحت المراقبة سيجنب المغرب تحديات وقد يساهم في طمأنة الجانب الآخر (أنصار تقرير المصير) بأن البلاد ربما تسير نحو مغرب أفضل، مغرب بدون أجهزة أمنية واستخباراتية خارج المراقبة السياسية والقضائية.
هناك تجارب دول قد يقتدى بها المغرب مثل البرتغال واسبانيا والتشيلي في مراقبة الأجهزة الاستخباراتية. وسيكون موقف المغرب أقوى في مجلس الأمن خلال بحثه نزاع الصحراء لو وضع أجهزته الاستخباراتية تحت الإشراف السياسي والقضائي، وهذا يقتضي فصلا حقيقيا للسلطات وقضاء مستقلا وبرلمانا واعيا بمسؤولياته، كما يقتضي رئيس حكومة حقيقي وليس مجرد رئيس حكومة.