الجزائر ومسار السنوات العجاف، الطريق الى قصر المرادية(1)/ رشيد شريت

التسلل التاريخي لرؤساء الجزائر منذ الاستقلال حتى الآن، بن أحمد بن بلة، هواري بومدين، الشاذلي بن جديد، لمين زروال، عبد العزيز بوتفليقة

بخطى سياسية حثيثة واثقة من الفوز، و جسم عليل أنهكه المرض؛ لدرجة أن جعل منه مجرد صورة شاخصة لا تستطيع الحركة و لا تقوى على الكلام ! يتجه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة البالغ من العمر 77 سنة إلى عهدة رئاسية رابعة. بعد أن حَسم أو قل حُسِم أمر ترشحه، و معه أمر الرئاسة عموما؛ فمجرد أن يقرر الرئيس التَّرشح فهذا يعني في الجزائر تمديد رئاسي جديد ! نظرا لانعدام أدنى أمل في حدوث مفاجأة كيف ما كانت؛ فالانتخابات في الجزائر بعد توقيف المسار الديمقراطي 1992 لم تعد ترتهن إلى عنصر المفاجأة و لا المنافسة، بقدر ما حسم أمرها على اعتبار أن نتائجها معروفة سلفا من قبل أن تجرى. ففي الجزائر مرشحان لا ثالث لهما: مرشح السلطة، و هو المرشح الموعود بالرئاسة سلفا؛ و مرشح أو _ مرشحون بصيغة الجمع _ لتنشيط العملية الانتخابية عادة ما يطلق عليهم المرشح الأرنب “le candidat lièvre “. و هؤلاء عادة ما ينالون بعض المكاسب السياسية بعد انتهاء “الكرنفال الانتخابي” لقاء جهودهم التنشيطية، بحيث يؤثثون مشهد المعارضة الانتقائية الجديدة. و قد يلحقون بالحكومة مثل ما حصل مع محمد السعيد مرشح انتخابات الرئاسية ل 2009 و الذي حصل على اعترف له في 2012 بحزبه الحرية و العدالة؛ ثم ألحق بعدها بالحكومة ليحتل بوزير الاتصال.

و مع ذلك يبقى العنصر الغيبي حاضرا و بقوة؛ و لأن الآجال بيد الله؛ ففي حالة وفاة مفاجئة للرئيس أثناء الانتخابات أو مباشرة بعدها؛ من شأن طبخة التمديد الرئاسي أن تفسد، ما سيعيد عقارب الساعة إلى حالة الصفر !

 بعد المرض ثم الوفاة المفاجئة للرئيس الهواري بومدين في 27 دسمبر 1978 كان الصراع على خلافة بومدين منحصرا بين عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية؛ و بين محمد الصالح يحياوي منسق حزب جبهة التحرير الوطني. و بعد انقسام معسكر قيادة المركزية لجبهة التحرير و معه مجلس الثورة؛ نتيجة الاستقطاب الحاد بين الرجلين. حينها قرر الفاعل الرئيسي و صاحب قرار الحسم ألا و هي المؤسسة العسكرية التدخل و فرض رئيس من خارج دائرة الصراع: العقيد الشاذلي بن جديد. فقد كان يُرى إلى المتصارعين بوتفليقة و يحياوي أنهما يمثلان قمة التناقض؛ فبوتفليقة كان يلام عليه أن ميولاته ليبرالية في دولة ما تزال تؤمن إلى حد ما ب”الاشتراكية” على الطريقة الجزائرية، بينما كان يرى إلى يحياوي على أنه لو تولى منصب الرئاسة لحول الجزائر حتما إلى دولة شيوعية.

 و هكذا خرج الوزير الأسبق للخارجية من سجال السلطة و فلكها مقررا مغادرة الجزائر، و الاستقرار بين محور باريس _ جنيف _ أبو ظبي حيث شغل منصب مستشار لشيخ الإمارات زايد آل نهيان. بيد أنه خرج و في نفسه ثأر الرئاسة. لأنه كان يرى أنه الأحق بهذا المنصب، و بأنه الخليفة الشرعي للرئيس الهواري بومدين الذي خلف أثرا كبيرا في الجزائر؛ حتى عد عهده من الناحية الاجتماعية العهد الذهب للمواطن الجزائري حيث كان الدينار الجزائري يناطح الفرنك الفرنسي، أما من الناحية السياسية فلا انجاز بحيث أن لغة الحزب الواحد و اللجنة المركزية و مجلس الثورة ما يزال جاثما على الحياة السياسية بدون منازع !

 علاوة على أن بوتفليقة و بخبرته الدبلوماسية و علاقاته المتنوعة و المختلفة، ما جعله يحقق دراية كافية و إلمام معتبرا بالمشهد الدولي و خباياه، كان من شأنه أن يقدم قيمة مضافة للجزائر. زيادة على كون عبد العزيز بوتفليقة أبرز العارفين بالجارة الغربية أي المملكة المغربية الخصم و المنافس و المشاكس رقم 1 للدولة الجزائرية؛ و كيف لا و هو ابن مدينة وجدة الذي ولد و ترعرع فيها. و التي ارتبط حكم الجزائر تاريخيا بمجموعة وجدة؛ جماعة الرئيسين أحمد بن بلة و الهواري بومدين؛ و ما عرف بجماعة الثمانية.

 بيد أن عبد العزيز بوتفليقةلم يُطَلِّق في يوم من الأيام حلم الرئاسة ! و إن توارى إلى الخلف؛ فإنه لم يقطع تماما مع السياسة. و الدليل أنه لم يكتب مذكراته كما فعل من طلقوا السياسة من جيله. لأن كتابة المذكرات هي الترجمة  الفعلية للمغادرة السياسية و الإحالة على التقاعد السياسي. الشيء الذي كان سابقا لأوانه بحسب بوتفليقة، و الذي كان على موعد مع الرئاسة و إن تأخرت من سنة 1979 إلى 1999….لكن مغادرة عبد العزيز بوتفليقة لحلم رئاسة 1979؛ لم يقف عند هذا الحد، إذ ازدادت متاعبه بعدها حين ارتبط اسمه بقضية أموال الحسابات السرية لوزارة الخارجية الجزائرية المودعة بسويسرا. حيث فتح مجلس المحاسبة المحدث أثناء بداية حكم الشاذلي بن جديد 1980؛ و باقتراح و تفعيل من الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الوزير السابق في عهد بومدين و المستشار بالرئاسة؛ تحقيق في بعض الملفات المالية. و تبدأ فصول الحكاية؛ حين كان بوتفليقة وزيرا للخارجية؛ إذ أمر السفارات الجزائرية بإيداع فائض ميزانيتها بحسابات خاصة تفتح لهذا الغرض على مستوى السفارات بداية من 1967؛ ليقرر بعدها تحويل جميع هذه المبالغ إلى حساب سري بالبنك السويسري. و هو ما جعل الأموال تتراكم بفعل السنين، لتصل لملايين الدولارات ! و مع تناثر الأخبار من هنا و هناك حول وجود هذا الحساب السري ! ما عجل بفتح تحقيق في الموضوع من طرف مجلس المحاسبة. ليجمع وزير الخارجية المغادر لمنصبه عبد العزيز بوتفليقة ما حواه “الرصيد”، و قدمه في شيك  إلى الرئيس الشاذلي بن جديد مبررا أن هذا الفائض كان من المقرر استثماره في بناء مقر جديد لوزارة الخارجية ! ما جعل الشاذلي يأمر بوتفليقة بأن يودعه وزارة المالية. ومن

و من الواضح أن تعلة بناء مقر جديد بهذه الأموال السرية لم يستسغها أحد ! و الأكيد ان قضية الحساب السري بسويسرا كان آخر مسمار يدق في نعش وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة قبل مغادرته لمقاليد السلطة. و دخوله في مرحلة كمون دامت أكثر من عقد و نصف

وطوال مرحلة الثمانينات و بداية التسعينات؛ ظن الجميع، بأن أجيال الثورة و جبهة التحرير و مجلس الثورة قد انتهت إلى غير رجعة ! و بأن الوقت قد حان لظهور قيادات شابة جديدة ما بعد الصورة و قد تكرس هذا التصور عندما هبت رياح التغيير و التعددية؛ عقب أحداث أكتوبر 1988، حين طفت إلى السطح أحزاب جديدة، ترأستها وجوه شابة جديدة غير معروفة، من قبيل قيادات الأحزاب الإسلامية: كعلي بلحاج؛ و عبد القادر حشاني؛ و أنور هدام؛ رابح كِبير عبد جاب، الله محفوظ نحناح؛ و أحزاب يسارية أخرى بقيادات جديدة لويزة حنون و سعيد السعدي…..

لقد اعتقد الجميع بأن صفحة الثورة؛ و حزب الثورة؛ و وجوه الثورة… أصبحوا في تعداد التراث و الأرشيف! بيد أن المؤسسة العسكرية كان لها رأيا آخر، سيما بعد الاكتساح الكبير الذي حققته الجبهة الإسلامية للإنقاذ سواء في الانتخابات البلدية لسنة 1990 أو المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية دسمبر 1991. فقد قرر عسكر الجزائر و بدعم خارجي إعادة عقارب الساعة السياسية بالجزائر إلى لحظة 1962 ! و هكذا تم استقدام وجوه ثورية و تاريخية لملء اللحظة الحرجة ؛بداية بمحمد بوضياف؛ و علي كافي و صولا إلى عبد العزيز بوتفليقة……

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password