تحتل فرنسا في كتابة التاريخ الدبلوماسي للمغرب ما بعد الاستقلال حيزا هاما بصفتها الشريك السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي الأول للمملكة المغربية. وقبل الاستعمار لم تكن فرنسا تحتل هذه الأهمية بل تعود الى اسبانيا وبريطانيا. ورغم ما يجري من حديث عن علاقات وطيدة، فقد شهدت هذه العلاقات خلال ستة عقود الأخيرة محطات توتر وصلت الى القطيعة في عهد محمد الخامس والجمود في عهد الحسن الثاني في بهض الفترات، والآن تشهد هذه العلاقات توترا على خلفية التحقيق مع مدير المخابرات المدنية، عبد اللطيف الحموشي.
محمد الخامس يرفع البطاقة الحمراء في وجه باريس
وهذه الشراكة الاستراتيجية لم تكن مثالية بعد الاستقلال بل تميزت بفترات شائكة كادت أن تصل إلى القطيعة الدبلوماسية. وحصل المغرب على استقلاله في ظل مواجهة قوية مع الاستعمار الفرنسي، تمثلت في نفي الملك محمد الخامس وسنت الحركة الوطنية حربا حقيقية ضد الاستعمار وعملائه، كما تعرضت أسماء وطنية للنفي والتعذيب والاعتقال مثل الزعيم علال الفاسي. وألقت هذه الأحداث بثقلها السلبي على العلاقات الثنائية بعد الاستقلال بل وتضاعفت للأسباب التالية:
-دعم المغرب الرسمي والحزبي والشعبي للثورة الجزائرية وتمويلها بالأسلحة واحتضان قادتها، علما أن الثورة الجزائرية كانت قاسية في مواجهة فرنسا، وكانت الأخيرة ترغب في وضع حد للدعم المغربي، وبالتالي نتج عن الموقفين المتناقضين مواجهة سياسية شائكة.
-الاختلاف بين باريس والرباط حول القضية الموريتانية، فبينما خططت فرنسا لدولة جديدة في موريتانيا لاسيما بعدما ظهرت بها موارد طبيعية هائلة مثل الحديد، كان المغرب يعتبر الصحراء بما فيها موريتانيا جزءا من أراضيه المغتصبة.
-الاختلاف الكبير بين باريس والرباط التي كانت قد شرعت في سن سياسة التأميم وخاصة تأميم الأراضي الزراعية التي كانت تهدد مصالح أكثر من 300 ألف فرنسي.
-مطالبة المغرب لفرنسا بسحب قواتها العسكرية المتمركزة في مختلف مناطق المغرب، وكان القصر يتحرك في هذا الملف بضغط من الأحزاب المغربية، خاصة إثر مشاركة هذه القوات في مهاجمة جيش التحرير المغربي إبان حرب إيكوفيون في الصحراء سنة 1958. ووصل الأمر بالرباط أن وضعت طلبا لدى الأمم المتحدة لاستصدار قرار يطالب بإجلاء القوات الفرنسية في أقرب وقت من الأراضي المغربية، بدل انتظار سنة 1963 المتفق عليها.
– قيام فرنسا سنة 1960 بتنفيذ أول تجربة نووية في منطقة صحراوية جزائرية كان المغرب يطالب باستعادتها ويعتبرها من ضمن أراضيه المستعمرة التي يجب أن تحرر، وجعل الملك محمد الخامس يندد بهذا العمل.
الحسن الثاني يلجأ الى فرنسا لمواجهة الحركة الوطنية
لكن العلاقات الثنائية ستشهد تطورا كبيرا في أعقاب رحيل الملك محمد الخامس وتولي الملك الحسن الثاني العرش. ولم تحظ هذه الفترة من العلاقات الثنائية باهتمام كبير، فالتطور في العلاقات بين البلدين بعد الاستقلال سواء التوتر أو الحوار لا يمكن فهمه بمعزل عن رؤية محمد الخامس لباريس ورؤية الحسن الثاني لهذا البلد الأوروبي. فالأول كان يقتسم مجموعة من المواقف والرؤى مع الحركة الوطنية التي ساندته في الكثير من الملفات الشائكة، بينما تخوف الثاني من احتمال وقوع انقلاب عليه من طرف الحركة الوطنية خاصة يسارها المتمثل وقتها في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ولجأ الملك الحسن الثاني الى نوع جديد من الحماية الفرنسية تحسبا لأي انقلاب ضده.
في الوقت ذاته، يتطلب فهم سياسة فرنسا تجاه المغرب على ضوء العلاقة المتوترة جدا التي جمعتها مع الجزائر بعد استقلال دامي “الثورة الجزائرية”. فباريس كانت تدرك ارتماء الجزائر في أحضان المعسكر الشرقي، ولم تكن ترغب في خسارة نفوذها في منطقة المغرب العربي، فكان رهانها الاستراتيجي على المغرب و تونس.
ومجرد اعتلاء الحسن الثاني العرش العلوي سنة 1961، أقدم الرئيس الجنرال شارل ديغول على سحب القوات العسكرية الفرنسية، رغم أن أن موعد سحبها كان هو 1963. وبقدر ما شكلت هذه الخطوة انفراجا في العلاقات الثنائية بقدر ما منحت الحسن الثاني شرعية جديدة في أعين الرأي العام المغربي، بصفته محرر البلاد من الوجود العسكري الأجنبي. وشكلت سنوات 1961-1965 فترة ذهبية في العلاقات الثنائية بين باريس والرباط حيث تحولت باريس الى داعم للمغرب سياسيا واقتصاديا وتقنيا وفي جميع المجالات.
اغتيال ابن بركة أو عودة التوتر للعلاقات الثنائية
لكن في أكتوبر 1965 ستتغير الأوضاع بشكل كبير بسبب اختطاف واغتيال المعارض المغربي المهدي بن بركة في باريس، وتسببت هذه الجريمة السياسية في اتخاذ فرنسا قرارا يقضي بتجميد التعاون العسكري والاقتصادي والإداري مع المغرب ما بين 1966-1968. ونتيجة القرار الفرنسي، نهج الملك الحسن الثاني تنويع شركائه الأوروبيين ، بل والقيام بانفتاح اكبر على الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك على الاتحاد السوفياتي. وخلف هذا الانفتاح قلقا كبيرا وسط طرف من الأحزاب السياسية المغربية، وكتبت جريدة الكفاح الوطني في عددها 8 ديسمبر 1967 أن “توتر العلاقات مع باريس سيسمح للإمبريالية الأمريكية بتوسيع نفوذها في المغرب”.
فرنسا تستعيد المغرب
وستنتعش العلاقات الثنائية بين البلدين بعد رحيل الجنرال دوغول وتولي جورج بومبيدو رئاسة البلاد سنة 1969، وسيشكل ذلك المنعطف الحقيقي نحو تمتين العلاقات المغربية-الفرنسية. فقد تم تبادل السفراء، وتحول المغرب إلى أكبر مستفيد من المساعدات الفرنسية، واستفاد من سياسة باريس بالاهتمام بمستعمراتها القديمة وانفتاحها على البحر الأبيض المتوسط. وساعد وصول الرئيس فاليري جيسكار ديستان المحافظ لرئاسة البلاد تعزيزا لهذه السياسة، حيث تحولت فرنسا الى شريك اقتصادي وسياسي وعسكري للمغرب ، وقد تجلى هذا التقارب من خلال:
-زيارة جيسكار ديستان للمغرب، كأول رئيس فرنسي يزور البلاد بعد الاستقلال.
-استيعاب الأسواق الفرنسية مجمل المنتوجات الزراعية والصناعية الخفيفة المغربية.
-التأييد غير المعلن للمغرب في استعادة صحرائه.
-تسليح الجيش المغربي بأسلحة متطورة، ومن ضمنها طائرات الميراج ووجود خبراء فرنسيين لتأطير الجيش المغربي.
-احتضان فرنسا لأكبر جالية مغربية في الخارج، حيث شكلت تحويلاتها المالية عنصرا استقرار هام للمالية المغربية ومصدرا للعملة الصعبة.
لكن هذه العلاقات ستتعرض لضربة قوية بوصول الحزب الاشتراكي الفرنسي برئاسة فرانسوا ميتران للحكم سنة 1981 ، وبإعادة النظر في العلاقات مع منطقة المغربي العربي وتفضيل الجزائر على المغرب، بل وقام الرئيس الجديد بالترخيص للبوليساريو بفتح مكتب تمثيلي في باريس في فبراير 1982 ، واختار الجزائر محطة أولى له في المغرب العربي بدل المغرب.
في هذه الفترة الحرجة، لم يستغل الملك الحسن الثاني العلاقات المتميزة للحزب الاشتراكي المغربي مع نظيره الفرنسي، بل قام الملك بالتقرب من الولايات المتحدة، وتصادف ذلك مع وصول الجمهوريين برئاسة رونالد ريغان للحكم في البيت الأبيض وسعيه للعثور على شركاء أوفياء في البحر الأبيض المتوسط، إذ كان البيت الأبيض يتخوف من قيام الحكومة الاشتراكية الإسبانية التي وصلت الى الحكم بقيادة فيلبي غونثالث بإجلاء القواعد العسكرية الأمريكية.
وتفيد الدراسات الخاصة بالدبلوماسية الفرنسية، أن باريس أدركت أن سياستها المنفتحة على العالم الثالث انطلاقا من مواقف تقدمية ويسارية التي حملها معه فرانسوا ميتران بدأت تقلص من نفوذ فرنسا لصالح الولايات المتحدة، بحكم أن دول العالم الثالث اليسارية كانت تثق كثيرا في الاتحاد السوفياتي قبل وضع الثقة في بلد غربي مثل فرنسا وإن كان يحكمه حزب يساري وتقدمي. وفي حالة المغرب، علاوة على النفوذ الأمريكي، كانت اسبانيا بقيادة الاشتراكي فيلبي غونثالث أكثر برغماتية ومحاولة أن تصبح شريكا رئيسيا للمغرب بدل فرنسا. وعلى ضوء هذه التطورات، قررت باريس الاشتراكية العودة لدبلوماسيتها الكلاسيكية وكان من نتائج ذلك إعادة النظر في العلاقات مع المغرب، إذ عملت على :
-الحفاظ على علاقات إيجابية مع المغرب وخلق توازن في العلاقات مع الجزائر.
-تفادي التوظيف السياسي لقضية حقوق الإنسان في المغرب، والاكتفاء بالدفاع عن هذه الحقوق من منطق حقوقي محض.
-تبني موقف محايد للغاية في صراع الصحراء المغربية بدون ميل لأطروحة البوليساريو والجزائر.
-وقدم المغرب خدمات لفرنسا من خلال قيامه بدور نشيط في الفرنكفونية، وتحوله إلى محاور ووسيط لدى الأنظمة في الخليج العربي والسعودية، التي كانت متخوفة من تخلي فرنسا عن سياستها العربية ثم مساعدة فرنسا في ملفات إفريقية مثل تشاد.
وابتداء من سنة 1983، تاريخ زيارة ميتران للمغرب، تحول هذا البلد الى أكبر مستفيد من المساعدات الفرنسية الاقتصادية والعسكرية. وسيرتاح المغرب ابتداء من تولي جاك شيراك رئاسة الحكومة سنة 1986 ، وهي الفترة التي عرفت بفترة التعايش في فرنسا، حيث أصبح للحسن الثاني مخاطبان، قصر رئاسة البلاد شانزليزيه وقصر رئاسة الحكومة، ماتينيون.
وأظهر الملك الحسن الثاني حنكة كبيرة في إعادة فرنسا للاهتمام بالمغرب، من خلق اللعب على توازنات جديدة والتهديد بجعل واشنطن المخاطب الرئيسي للرباط.
عشرون سنة من الحوار وسط شبح “صديقنا الملك” و”الحموشي
وخلال التسعينات، تعرضت العلاقات المغربية-الفرنسية لتوتر لا يرقى الى ما هو ثنائي بل الى ما هو شخصي، ويتجلى هذا التوتر في كتاب “صديقنا الملك” لجيل بيرو الذي قدم فيها معطيات خطيرة حول الملك الحسن الثاني حول الفساد المالي والسياسي. هذا الأخير جعل من كتاب شخصي أزمة دولة حقيقية بين البلدين.
ولم تسجل العلاقات المغربية-الفرنسية وطيلة العشرين سنة الأخيرة، أي توتر بين الرباط وباريس باستثناء ما خلفه كتاب “صديقنا الملك” لجيل بيرو من تشنج من جهة المغرب أساسا. فرئاسة جاك شيراك لفرنسا شهدت العلاقات الثنائية تطورا كبيرا من عناوينه البارزة “تصريحات شيراك في وصفه للصحراء الغربية بأقاليم المغرب الجنوبية”، ويحكي الصحفي بيير توكوا عن تطور هذه العلاقات الى ما يشبه الأبوة في كتابه “جلالة لملك أنا مدين لوالدكم”.
وحافظ الملك محمد السادس على منهجية أبيه في التعاطي مع فرنسا بتفضيلها اقتصاديا وسياسيا. ولم تسجل العلاقات تراجعا في عهد الرئيس اليميني نيكولا ساركوزي بل استمرت على الوتيرة نفسها، لاسيما بعد تطور العلاقات الرسمية الى صداقة بين ملك المغرب محمد السادس وساركوزي. ورغم الفتور الذي تكهن به البعض بعد وصول فرانسوا هولند الاشتراكي الى الحكم، إلا أنه حافظ على الوتيرة نفسها من دعم المغرب اقتصاديا وسياسيا وإن حاول البحث عن توازن بين المغرب والجزائر.
والأزمة الحالية التي تعيشها العلاقات الثنائية ليست نتاج تغيير حاصل في موقف فرنسا من الصحراء أو الرهان على الجزائر أكثر من المغرب بل بسبب ملف شخصي للغاية أعطته الرباط طابع ملف دولة، ويتعلق بقرار القضاء الفرنسي استنطاق مدير المخابرات المغربية عبد اللطيف الحموشي بسبب تعذيب مفترض لفرنسيين من أصل مغربي.
معطيات واقع العلاقات الثنائية بين الرباط وباريس وماتمثله فرنسا من شريك اقتصادي أول وصاحب الفيتو ضد كل محاولة فرض استفتاء تقرير المصير في الصحراء ستجعل ملف الحموشي حادثا عرضيا عندما يعي المغرب مفهوم العدالة الكونية وقرارات القضاء الفرنسي بمحاكمة حتى رؤساء البلاد مثل جاك شيراك ونيكولا ساركوزي بعيدا عن مفهوم “المؤامرة”.