أعلنت الصين تأييد روسيا في سياستها تجاه أوكرانيا لتعزز بذلك من واقع انقسام وصراع القوى الكبرى في بداية القرن الواحد والعشرين. وشاءت الظروف التاريخية أن جمهورية الحكم الذاتي القرم كانت سنة 1853 بداية ما يسمى باندلاع أول صراع جيوسياسي في التاريخ المعاصر عندما واجهت روسيا القوى الغربية وقتها فرنسا وبريطانيا والدولة العثمانية في حرب امتدت سنوات وانهزمت فيها، والآن تسعى للانتقام التاريخي لنفسها.
ويعود ملف القرم الى الواجهة عبر الأزمة الأوكرانية ويعيد معه التاريخ. فقد فرض أنصار الغرب منذ أسبوع في أوكرانيا واقعا سياسيا بإرساء نظام جديد جرى فرضه عبر التظاهر في ساحة الاستقلال، ولم يتركوا فرصة للمفاوضات والاتفاقيات التي جرى التوصل إليها وانتقل الأمر الى الى طرد الرئيس فيكتور يانوكوفيتش والإعلان على الانضمام الى الغرب وخاصة الاتحاد الأوروبي.
وكان ملف الاتحاد الأوروبي هو الذي فجر الصراع الجيوسياسي الحالي. فقد رفض الرئيس المعزول فيكتور ياكونوفيتش التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، وأدى هذا في نوفمبر الماضي الى نزول أنصار الغرب بين ليبراليين ويمين قومي متطرف وانتهى الصراع في حلقته الأولى منذ أيام بفرار ياكونوفيتش الى روسيا.
وجرت رؤية هذا النزاع في البدء من زاوية النزاع المحلي أو سيناريو جديد للثورة البرتقالية التي كانت قد انتهت بفوز أنصار الغرب وهزيمة ياكونوفيتش. وإذا كان السيناريو قد تكرر بهزيمة ياكونوفيتش، فروسيا أعطت للنزاع بعدا دوليا بل وحتى عالميا من خلال فرض سيناريو جديد يقف الغرب أمامه عاجزا وملوحا فقط بإجراءات من الصعب تنفيذها.
واتخذت روسيا حتى الآن الخطوات التالية، اعتبار يانوكوفيتش الرئيس الشرعي للبلاد رغم مغادرته كييف، دعم القوى الموالية لروسيا في شرق وجنوب أوكرانيا وخاصة منطقة القرم وإن تطلب الأمر الانفصال عن أوكرانيا. وعمليا، فقد نجحت في ذلك من خلال إنشاء حكومة جديدة في القرم واستقطاب العديد من قادة الجيش الأوكراني ومنهم قائد البحرية الأميرال دنيس بيريزوفسكي الذي أدى قسم اليمين للدفاع عن جمهورية القرم.
ويبقى المنعطف الهام جدا هو انضمام الصين الى تأييد روسيا في سياستها في أوكراينا. فقد أعنلت وكالة نوفوستي يوم الاثنين 3 مارس الجاري اتصالات بين وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره الصيني وانغ لي، حيث أبديا مواقف مشتركة حول ما يجري في أوكرانيا.
والتأييد الصيني في انتظار موقف دول أخرى صاعدة مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا ذات الثقل إقليميا يعتبر مؤشرا على صراع جيوسياسي لافت لأن الاختلاف تجاوز ما كان عليه في الملف السوري الى اختلاف جذري.
وتؤكد جريدة لوموند في واجهتها ليوم الاثنين 3 مارس الجاري وقوف الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة عاجزا على اتخاذ إجراء ملموس لدرعم روسيا باستثناء التلويح بمجموعة من العقوبات النسبية جاء في محادثة الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع الرئيس الروسي فلادمير بوتين ليلة 1 مارس الجاري عندما كشف زعيم البيت الأبيض عن إجراءات عقابية منها طرد روسيا من مجموعة الثمانية.
وبدأ نوع من الإحباط يسيطر على الغرب أمام فشله في مواجهة روسيا، وبدأت أصوات تحاول الاعتراف بأخطاء الغرب. وتعتبر افتتاحية جريدة نيويورك تايمز يوم 2 مارس دالة للغاية في هذا الشأن. فرغم عنوانها المدين لروسيا وهو “اعتداء روسيا” التي تحاول تحميل بوتين مسؤولية ما يجري، فهي تعترف ضمنيا أن طريقة عزل يانوكوفيتش وإلغاء الدستور الذي كان يضمن حقوق الأقليات لم يكن عملا ناضجا، وتسبب في إحساس روسيا بنوع من المهانة الدولية جراء ما يجري في منطقة تعني الكثير للأمن القومي الروسي.
ويتساءل الغرب عن نوايا بوتين، ولكن التساؤل يجب أن يذهب الى أكثر من ذلك، ماذا يريد الكرملين بحكم أن موقف بوتين يحظى بتأييد غالبية الروسيين وتصفق له مراكز الدراسات الاستراتيجية في روسيا.
ويكتب المحلل الأمريكي ليون آرون مدير معهد الدراسات الروسية في المعهد الشهير أنتربرايز في واشنطن واصفا بوتين بنابوليون بونابرت من خلال الدخول الى المعركة واتخاذ القرارات لاحقا، مبرزا نية بوتين التأكيد على مبدأ هيمنة روسيا في فضاء الاتحاد السوفياتي المنحل (الجمهوريات السابقة).
ومن خلال مختلف المؤشرات بهذه الأزمة حققت روسيا ثلاثة أهداف رئيسية وهي:
أولا، إرسال رسالة واضحة الى الغرب بتفادي تكرار المعاملة المهينة التي تعرضت لها روسيا في أعقاب تحلل الاتحاد السوفياتي واستقلال عدد من الجمهوريات،
ثانيا، إرسال رسالة واضحة الى الجمهوريات السوفياتية السابقة التي تغازل الغرب وترغب في الانضمام الى الحلف الأطلسي وتقديم مساعدات الى القوات الأمريكية على حساب مصالح روسيا أن موسكو لن تتردد في التحرك، وإن كان تدخلها في جورجيا منذ سنوات مؤشرا على هذه السياسة.
وثالثا، روسيا مستعدة الى مختلف القرارات للدفاع عن كرامتها ونفوذها وإن تطلب الأمر عودة الحرب الباردة بشكل من الأشكال.
وعمليا، فالأزمة الأوكرانية وخاصة القرم تعتبر، وفق وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ في تصريح يوم 3 مارس الجاري، أخطر أزمة سياسية في القرن الواحد والعشرين تواجهها أوروبا. وهو تصريح يؤكد منعطفا جيوسياسيا في أوروبا بل والعالم بسبب الانقسام الواضع بين القوى الكبرى وعودة الحرب الباردة التي لم تعد شبحا بل واقعا في ظل تهاف هذه القوى على قواعد عسكرية عبر العالم ونشر أساطيلها.
ومن صدف التاريخ المثيرة أن مفهوم الصراع جيوسياسي في العالم بدأ سنة 1853 بالصراع حول منطقة القرم بين روسيا بقيادة الإمبراطور نيقولا الأول في مواجهة الدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا ومملكة سردينا التي تصبح إيطاليا وانهزمت روسيا ووقعت السلام سنة 1856 في باريس. وإذا كانت شبه جزيرة القرم الاستراتيجية لروسيا للوصول الى البحر المتوسط تدشن مرحلة جديدة من الصراع جيوسياسي عالميا في القرن الواحد والعشرين، فمن الصعب أن يتكرر سيناريو 1856 بهزيمة روسيا في الوقت الراهن.