يعيش المغرب على إيقاع نقاش قوي بشأن مدى أهمية استعمال اللغة العربية والدارجة في التعليم. وأدلى المفكر المغربي عبد الله العربي برأيه في حوار قيّم في جريدة الأحداث المغربية، ومن ضمن ما شدد عليه صاحب “مجمل تاريخ المغرب” حديثه عن وظيفة اللغة أو اللهجة في تقويض الوحدة الوطنية. وتعيش اسبانيا حربا لغوية بين اللغة الإسبانية واللغة الكتالانية كمظهر بارز من مظاهر الصراع حول الانفصال ووحدة هذا البلد الأوروبي.
وتبرز التجربة الإنسانية عبر التاريخ الدور الحاسم للغات في تشكيل الهوية والوعي والكيانات السياسية، ويجري وصفها “بالسلاح” عندما يتم تناول دورها السياسي. ومن الدول التي تعيش حربا سياسية على المستوى اللغوي هناك دولة اسبانيا وخاصة بين كتالونيا والدولة المركزية في مدريد.
ولغويا، تتعايش لغات متعددة في اسبانيا، اللغة المركزية والرسمية وطنيا هي الإسبانية، والى جانبها اللغة الكتالانية كلغة رسمية في كتالونيا، والباسكية كلغة رسمية في إقليم بلد الباسك والغاليسية في إقليم غاليسيا (شمال غرب اسبانيا) علاوة على لغات أخرى محدودة في فالنسيا وأراغون. وهذه اللغات منحدرة من اللاتينية باستثناء الباسكية.
وإذا كانت اللغات الإقليمية تتعايش مع الإسبانية، إلا أن هذا التعايش يغيب في كتالونيا حيث أصبحت الللغة الكتالانية هي الرسمية ومفروضة بموجب القانون، ووصل الأمر الى ما يمكن اعتباره حظر اللغة الإسبانية في هذا الإقليم الواقع شمال شرق اسبانيا وعامصته برشلونة. وهذه مفارقة حقيقية، إذ في الوقت الذي تعيش فيه الإسبانية انتشارا على المستوى العالمي تشهد تقلصا على مستوى الوطن الأم.
وفي إطار سعيها للانفصال عن اسبانيا، سنت حكومة كتالونيا سنة 1998 عندما كان يرأسها السياسي المخضرم جوردي بوجول قانونا ينص على تخصيص 50% من الحيز للغة الكتالانية في برامج التعليم والتدريس والاعلام والإدارات. وجرى تطوير هذا القانون تدريجيا حتى أصبحت هذه اللغة هي السائدة بقرابة 100 % في مجموع هذا الاقليم الذي عاصمته برشلونة.
وكان الباحث السياسي دييغو هيدالغو قد شدد في كتابة “مستقبل اسبانيا” الصادر سنة 1996 على الدور الكبير الذي تلعبه اللغات الاقليمية في تقويض الوحدة الوطنية الإسبانية. وتتحقق تكهنات هذا الباحث في وقتنا الراهن.
ونتيجة قانون اللغة الكتالاني، لا توجد ولو مدرسة واحدة في مختلف مدارس كتالونيا تلقن باللغة الإسبانية بل تحولت هذه الأخيرة الى لغة مساعدة في التدريس في مراكز محدودة للغاية، وتتعامل معها حكومة كتالونيا كلغة أجنبية ضمن اللغات الأخرى، وتخصص لها ساعتين أسبوعيا، وأغلب المدارس لا تلتزم بتدريس اللغة الإسبانية رغم صدور قرار من المحكمة الدستورية.
ورافق نشر وفرض اللغة الكتالانية إعادة النظر في البرامج التعليمية التي تتماشى وطرح الاستقلال عن اسبانياـ وتولى مفركون وباحثون موالون لكتالونيا تعزيز مضامين ثقافية تختلف عن الإسبانية، وذلك في تكملة لدور اللغة.
وحاولت حكومة الحزب الشعبي برئاسة خوسي ماريا أثنار ما بين 1996-2004 ولاحقا برئاسة حكومة ماريانو راخوي في وقتنا الراهن تغيير هذا الوضع لكنها لم توفق في مسعاها.
وخلال العقدين الأخيرين، نجحت حكومات الحكم الذاتي المتعاقبة في كتالونيا وأغلبها مكونة من أحزاب قومية كتالانية من تربية جيل كامل على اللغة الكتالانية بينما يقتصر استعمال الإسبانية على المهاجرين الوافدين وعلى الإسبان القادمين من أقاليم أخرى. وترتب عن هذه السياسة اتساع الشرخ اللغوي والقواسم المشتركة بين كتالونيا وباقي اسبانيا.
وتهدد حكومة كتالونيا بإجراء استفتاء تقرير المصير للانفصال عن اسبانيا، وهو الاستفتاء الذي نصّ عليه برلمان كتالونيا. ولا يمكن فهم المواجهة بين الحكومة المركزية والحركات القومية الجهوية في اسبانيا بمعزل عن الصراع اللغوي. وفي حالة انفصال كتالونيا عن اسبانيا، فالفضل سيعود أساسا الى السياسة اللغوية التي نهجتها الحكومات المتعاقبة على الحكم في كتالونيا.