هذا العام شهدنا نفس المهزلة المتمثلة في تخليد عيد الاستقلال يوم 18 نوفمبر، في إشارة إلى العام 1955، رغم أننا نعلم أن المغرب (وبالضبط الجزء الأوسط منه فقط) لم يحصل على الاستقلال فعلا حتى يوم 2 مارس 1956، تاريخ توقيع اتفاق إلغاء الحماية الفرنسية. ورغم ذلك فإن هذا التاريخ يكاد يطويه النسيان فلا هو عطلة رسمية ولا يوم ذكرى. لا يوجد في القاموس الرسمي إلا 18 نوفمبر، “يوم إعلان الاستقلال من طرف المحرر المغفور له محمد الخامس “، وفقا لجريدة لوماتان (صباح الصحراء).
نقولها و نكررها: هذا كذب وبهتان مفضوح. كل ما حدث يوم 18 نوفمبر 1955 هو أن الملك محمد الخامس ألقى خطابا يومين بعد عودته من المنفى. صحيح أنه خطاب تاريخي، ولكن موضوعه لم يتضمن، على حد قول محمد الخامس نفسه، “الإعلان عن مباشرة المفاوضات مع فرنسا لتحديد إطار ومضمون استقلال البلاد، (مع العلم أن…) المفاوضات سوف تختتم بوضع حد لنظام الحماية”. تلك المفاوضات كانت قد بدأت خلال صيف 1955 في منتجع إيكس ليبان في شرق فرنسا عندما كان محمد الخامس لا يزال في المنفى، حيث مثل الجانب المغربي قياديون من الحركة الوطنية (من حزب الاستقلال وحزب الشورى). و إذا كانت المفاوضات قد توجت بالاستقلال بتاريخ 2 مارس 1956، فإن السبب الأول هو أن فرنسا وجدت نفسها مجبرة على الرضوخ بعد عدة سنوات من مقاومة شرسة سقط فيه المئات من الشهداء في سبيل حرية الوطن. لكن هؤلاء الأبطال المغاربة مثل محمد الزرقطوني و أحمد الرشيدي و حمان الفطواكي وعبد الله الشفشاوني … لا نجد لهم أثرا كبيرا في مقررات ودروس التاريخ.
وفقا لصحيفة لوماتان التي تعتبر قبلة لـ”التاريخ الرسمي”، فإن “محمد الخامس هزم الحماية في شهر نوفمبر 1955 عندما فرض على أنطوان بيني Antoine Pinay التوقيع على البيان النهائي للاستقلال”. كيف يستطيع المرء أن يكذب بهذه الوقاحة؟ محمد الخامس وبيني لم يوقعا على أي وثيقة على الإطلاق. كل ما في الأمر أنهما اجتمعا عشرة أيام قبل عودة السلطان من المنفى ( وهي العودة التي انتزعها إصرارُ الوطنيين) في لقاء ودي، حيث أكد رئيس المجلس الفرنسي التزام حكومته باستئناف المحادثات التي انطلقت من قبل في إيكس ليبان.
أما الزعماء الوطنيون المساهمون في تلك المفاوضات فإن الصحيفة لا تذكرهم إلا في فقرة عابرة، وفقط في سبيل الإشارة إلى أن محمد الخامس كان “قائدهم” (وهذه كذبة أخرى: لا شك أن السلطان كان يتمتع آنذاك بوضع رمزي قوي، ولكن خلال منفاه في مدغشقر، لم يكن على علم بتطور الأحداث في المغرب). فلماذا تناست الصحيفة أعمال المقاومة البطولية، ولماذا غضت الطرف عن الانتفاضة الباسلة التي قادها عبد الكريم الخطابي، واصفة إياها بـ”تمرد الريف”؟ وأين الموقعون الشجعان على وثيقة المطالبة بالاستقلال، الذين تجاوز عددهم الستين، والذين عرضوا حياتهم للخطر لإعلان وطنيتهم ؟ لم تذكرهم الصحيفة إلا بوصفهم نوعا من “الائتلاف”… و لتعرج طبعا على “الدعم الكامل” الذي خصصه لهم محمد الخامس (وهذا نصف خطأ، لأن مساندته لهم كانت تتسم بنوع من المد والجزر حسب الظروف السياسية وعلاقته مع سلطات الاستعمار…)
ما سبب هذا السطوالفظيع على التاريخ؟
إنه رغبة النظام الملكي الحاكم في التأكيد على وجود شرعية واحدة ووحيدة في البلاد، وهي التي يمنحها الدم الملكي. قد نتفهم أن يكون الحسن الثاني لجأ لهذا التحايل على الذاكرة الجماعية، سعيا منه لهزيمة خصومه في الحركة الوطنية. ولكن اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، ما المصلحة في اجترار نفس الأكاذيب؟ إن العرش مستقر لا يهدده أحد. ثم إن الملك محمد السادس، حسب ما يردد الإعلام الرسمي، حريص على “ترسيخ المستقبل الديمقراطي في المغرب”. ولكن المستقبل المشرق لا يمكن أبدا بناءه على أنقاض اقتطاع جزء من الماضي. إن مراجعة التاريخ الرسمي لم تعد أمرا مرغوبا فقط بل هو اليوم ضرورة. فسح المجال أمام أبطال آخرين قد يُمثل علامة نضج للملكية، بينما إصرارها على محوهم من الذاكرة هو الذي يكشف ضعف الملكية وعدم ثقة أركانها في أنفسهم. إنها لمفارقة بئيسة حقا، لمن يدرك مدى سلطتهم المطلقة…