خلال الانتخابات الرئاسية التركية التي جرت الأحد 14 مايو/أيار الجاري، تناسلت المقالات في الصحافة الغربية، وهي مقالات تعكس مواقف عدد من الدول الغربية، التي تتمنى هزيمة طيب رجب أردوغان في هذه الانتخابات، وفوز غريمه الذي يميل للغرب كليتشدار أوغلو.
وكان أردوغان عرضة للكثير من الانتقادات طيلة السنوات الماضية تارة بسبب مواقفه السياسية في العلاقات الدولية، وتارة باسم حقوق الإنسان بسبب الخروقات التي تشهدها البلاد، وتارة أخرى بسبب ما يحصل من خروقات بعد فشل المحاولة الانقلابية. وفي الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم الأحد الماضي، والتي أسفرت عن نتائج تقود للجولة الثانية، كان جزء من الإعلام الغربي مشارك في الحملة الانتخابية، وكأنه ناطق باسم المرشح كليتشدار أوغلو. وتقف أسباب كثيرة وراء موقف الغرب الراغب في هزيمة أردوغان، وإن كانت كلها تحمل طابعا جيوسياسيا، لاسيما في وقت يشهد فيه العالم تغيرات عميقة. ومن أبرز هذه المواقف ما يلي:
في المقام الأول، يوجد تيار في الغرب لا يرغب في رؤية الإسلام السياسي المعتدل ينجح في صناديق الاقتراع، ويعمل على تقدم البلاد ويشكل حافزا لشعوب أخرى. وكانت مؤسسة راند التي تساهم في صنع القرار الأمريكي، من خلال وضع التصورات الكبرى، قد اعتبرت في تقرير استراتيجي لها سنة 2003-2004 بأنه يجب تعميم النموذج التركي على باقي العالم العربي، لمواجهة الفكر السلفي المتطرف. وكان هذا إبان الحرب ضد الإرهاب بعد 11 سبتمبر/أيلول وضد العراق. وكان حزب العدالة والتنمية حديث السلطة سنة 2004، غير أنه بعد مرور أكثر من عقدين في السلطة، ونوعية السياسة التي تبناها، تنظر مراكز التفكير الاستراتيجي ومنها «راند» بعين القلق، إلى النموذج التركي الأردوغاني لأنه أطفأ النموذج الأتاتوركي، وبدأ يشكل مرجعا لسياسيين ومفكرين في العالم العربي والإسلامي. وتجدر الإشارة إلى أن أي نموذج ناجح من العالم الثالث كانت مرجعيته ليبرالية أو إسلامية أو اشتراكية، يكون مصدر قلق لأوساط في الغرب.
في المقام الثاني، شكّلت تركيا، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية سدا رئيسيا للغرب لصد المد الشيوعي في الشرق الأوسط، أيديولوجيا وعسكريا بعد انضمامها إلى منظمة حلف شمال الأطلسي. فقد احتضنت قواعد وأسلحة نووية كأقرب نقطة لضرب الاتحاد السوفييتي في حالة الحرب. ونجحت في وجه الأنظمة العربية مثل العراق وسوريا. غير أن تركيا أمس ليس هي تركيا اليوم. فقد أحست تركيا بالمرارة عندما رفض الاتحاد الأوروبي انضمامها، وتفاقمت المرارة عندما بدأ الغرب يوظف مجازر الأرمن ضده. وشرعت مع أردوغان إلى تغيير شبه جذري في سياستها. علاقة بهذا، بدأت تقتني السلاح الروسي والصيني، ولعل أبرز عنوان في هذا الشأن هو اقتناؤها لمنظومة الدفاع الجوي إس 400 الروسية، في تحد كبير للغرب، خاصة الولايات المتحدة التي فرضت عليها عقوبات. ثم ميلها التدريجي إلى المحور الروسي – الصيني، من خلال التنسيق السياسي في ملفات دولية واحتمال الانضمام إلى مجموعة بريكس. وبدأت تركيا تضعف النفوذ الغربي في البحر الأبيض المتوسط، من خلال محاصرة النفوذ الفرنسي، وكذلك في القارة الافريقية. تحولت تركيا إلى دولة «بيفوت» بمفهوم أنها قطعة ضرورية في المشهد الجيوسياسي العالمي، وقادرة على إحداث تغييرات ملحوظة في حالة ما إذا مالت لهذا الطرف أو ذاك.
في المقام الثالث، من أبرز الملفات التي تثير الغرب وتجعله لا يتمنى نجاح أردوغان هو سياسة تركيا العسكرية، فقد نجحت تركيا في تطوير صناعتها العسكرية بشكل لافت للنظر، ومنها السفن الحربية والطائرات المسيرة. ويكفي أن الطائرات المسيرة التركية أنقذت نسبيا أوكرانيا من الدمار الذي تعرضت له في بداية الحرب. وبدأت دول لديها باع في الصناعة العسكرية تقتني الدرونات التركية. وبدأت توقع صفقات مع عدد من الدول، خاصة الفقيرة لكي ترفع من قدراتها التسليحية والدفاعية. والحديث عن السلاح هو حديث عن السيادة والدفاع عن استقلالية القرار السياسي لأي دولة، والواقع أن بعض الدول الافريقية ما كان لها الحصول على طائرات مسيرة وأسلحة أخرى لو لم تحقق تركيا هذه القفزة في صناعة السلاح.
في المقام الرابع، كانت دول العالم الثالث ومنها العربية، تبرر تخلفها بأنها لا يمكنها التقدم مثل الدول الغربية بسبب النهضة الأوروبية التي شهدها الغرب منذ خمسة قرون، غير أن تركيا كسرت هذا الاعتقاد الخاطئ من خلال رهانها على البحث العلمي والاستثمار الذكي في مختلف القطاعات بما فيها العسكرية. الأمر الذي جعلها تحقق نسبة كبيرة من الاكتفاء الذاتي في مختلف الحاجيات، وتتحول إلى دولة قوية تجاريا وسياسيا وعسكريا. وبدأ مفكرون وإعلاميون مقربون من السلطة في بعض الدول ونذكر منها المغرب والجزائر يتحدثون عن النموذج التركي. وكان الإعلام شبه الرسمي المغربي في مواجهته للأزمات مع دول أوروبية ومنها فرنسا، يوظف فكرة أن هذا الغرب وبالأخص باريس لا تريد تركيا جديدة في جنوب غرب البحر الأبيض المتوسط، أي المغرب. ويسعى العديد من دول العالم الثالث إلى تقليد الوصفة التركية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في شتى المجالات. تحول تركيا إلى نموذج تحفيزي للكثير من الدول ومنها جنوب البحر الأبيض المتوسط يقلق الغرب كثيرا.
في المقام الخامس، بصم أردوغان تاريخ تركيا بسبب استمراره في السلطة لما يفوق العقدين كرئيس للحكومة، ثم كرئيس للدولة، حيث أصبحت الإدارة عموما أردوغانية نسبيا. وذلك بمعنى أن الدولة العميقة تؤمن بالأهداف الكبرى التي عمل ويعمل من أجلها أردوغان مثل تطوير البلاد صناعيا وتجاريا، وإن كان جزء من هذه الإدارة لا يتقاسم معه أفكاره، خاصة الطرح الديني. ولهذا وإن انهزم أردوغان في الجولة الثانية، سيكون من الصعب على منافسه كليتشدار أوغلو إحداث تغيير جذري في سياسة البلاد داخليا وخارجيا. وهنا نستحضر السيناريو البرازيلي، فقد تولى رئاسة البرازيل اليميني الشعبوي جاير بولسونارو سنة 2019، ولكنه لم يستطع إحداث تغيير كبير في توجهات البلاد التي رسمها الرئيس لولا دا سيلفا ومنها، الرهان على سياسة تبتعد تدريجيا عن الولايات المتحدة لتزعم منطقة أمريكا اللاتينية.
ويبقى دائما التحدي في مثل هذه الحالات، هل حزب العدالة والتنمية قادر على إيجاد بديل لأردوغان يتمتع بثقله السياسي وجرأته والكاريزما نفسها، لأن غياب البديل الذي سيعوض الزعيم يجعل الكثير من المشاريع الكبرى للدول تفشل أو تتباطأ في تنفيذ الأهداف المسطرة. كما أن الشعوب ترفض في بعض الأحيان استمرار وجه وحيد في السلطة، لاسيما إذا كانت تعيش مرحلة تطوير الديمقراطية.