يهتم الكثير من الباحثين والخبراء بنوعية الاتفاقيات السياسية، وتصريحات المسؤولين المدنيين، لفهم العلاقات الدولية ومستقبلها، لكن البعض يتناسى مدى تأثير العامل العسكري، بمعنى مستوى القوة العسكرية الذي يكون محددا في هذا الشأن. وكل تطور أو حدث عسكري يحمل معه تطورات كبرى في رسم الخريطة السياسية مستقبلا. وخلال الأسابيع الأخيرة ما بين سبتمبر/أيلول الماضي وأكتوبر/تشرين الأول الجاري، وقعت منعطفات عسكرية سيكون لها بالغ الأثر في العلاقات الدولية، وتخص أساسا الصين وروسيا، وعلاقاتهما بالغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة.
وعندما يجري الحديث عن التأثير القوي للولايات المتحدة في القرارات السياسية الكبرى للعالم، فهذا يترجم بحجم قوة أسطولها البحري الحربي، خاصة حاملات الطائرة المنتشرة في مختلف البحار، ويمنحها القدرة على التدخل في معظم مناطق العالم في ظرف 48 ساعة. وعندما يجري الحديث عن صمود إيران في وجه الضغوطات الدولية، وتراجع الولايات المتحدة عن شن حرب ضد هذا البلد مثل، ضرب منشآته النووية، فهذا يعود الى ما حققته إيران في مجال تطوير الصواريخ التي تلحق الضرر العميق بالآخر، وتحولها الى قوة ردع مدمرة. ومنطقيا، لو كانت إيران ضعيفة لكانت عرضة للقصف الأمريكي والإسرائيلي منذ سنوات، لكن صناعتها الصاروخية وضعت خطا أحمر في وجه أي اعتداء.
وعلاقة بهذا، شهد العالم ما بين سبتمبر الماضي وأكتوبر الجاري ثلاثة أحداث عسكرية كبرى، تدخل ضمن الأحداث الصامتة التي لا تثير اهتمام الرأي العام الدولي، بل لا تحظى بالقسط الوافر من التحليل من وسائل الإعلام، لكنها تبقى ذات دلالة كبرى لمعرفة الأحداث المستقبلية.
*أولا، بدء موسكو منذ منتصف سبتمبر الماضي، في نشر منظومة الدفاع الجوي إس 500 لحماية الأراضي الروسية. وهذه المنظومة تعد الأكثر تطورا في العالم، وهي قادرة على اعتراض الطائرات مهما كانت قدرتها القتالية والمناورة. وفي الوقت ذاته، قادرة على اعتراض الصواريخ بمختلف أنواعها، بما فيها الباليستية في الأجواء العليا جدا. هذه المنظومة تعني من الناحية العسكرية ضربة قوية للطائرات المقاتلة، فهي متفوقة بجيلين على الطائرات المقاتلة. وعمدت واشنطن طيلة السنوات الماضية على معاقبة الدول التي تقتني نظام إس 400، خاصة تركيا، وهددت الهند إذا اشترت هذا النظام الروسي، كما هددت دولا عربية مثل السعودية. وعليه، إذا كانت منظومة إس 400 قد خلقت هذا التخوف العسكري في الغرب، فكيف الحال بنظام إس 500، خاصة إذا قررت روسيا بيعه إلى حلفائها.
*ثانيا، كشفت جريدة «فايننشال تايمز» منذ أيام عن تجربة عسكرية فريدة من نوعها، بل مقلقة قامت بها الصين، وتتجلى في إطلاق صاروخ يفوق الصوت مرات. إذ قامت بتجربة صاروخ بسرعة تفوق سرعة الصوت بخمس مرات (6000 كلم) قادر على حمل رؤوس نووية، مع الاحتفاظ بالقدرة الكافية على المناورة لتفادي الدفاعات الصاروخية. ويبرز الموقع الرقمي الأمريكي المتخصص في القضايا العسكرية «ديفينس وان» كيف قام الصاروخ بالدوران حول الكرة الأرضية وعاد الى الصين خلال أغسطس/آب الماضي، من دون نجاح الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية في رصد التجربة إلا بعد مرور أيام. ويبقى الأخطر في التجربة هو عدم اعتماد هذه الصواريخ على مسار الصواريخ الباليستية التقليدية، أي تطير على علو منخفض وتغير مسارها مرات عديدة، ما يجعل اعتراضها أمرا مستحيلا. وقال الكولونيل في القوات الجوية الأمريكية، كريستوفر ستروف، الذي يشغل منصب نائب مدير العمليات في قيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية «إن الشيء الذي يثير قلقنا بشأن سرعة الصوت هو وقت التحذير، حيث تنطلق هذه الأشياء بسرعة أعلى مما ترصده صواريخنا العادية الباليستية العابرة للقارات». ويعد تصريح هذا المسؤول العسكري كافيا لفهم الامتياز الذي تتمتع به الصين مستقبلا، في عالم سيعتمد على الصواريخ أكثر من أي وقت مضى.
*ثالثا، عاش العالم خلال شهر سبتمبر الماضي على الاتفاقية المفاجئة التي وقعتها بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا، بشأن إنشاء حلف بحري يسمى «أوكوس» وحدد هدفا رئيسيا هو احتواء تعاظم النفوذ الصيني في المحيط الهادئ. وكان المهتمون ينتظرون ردا من طرف الصين المستهدفة بالحلف البحري الجديد، ولم تتأخر بكين في الرد العملي مباشرة، فقد أعلنت تسيير دوريات مشتركة مع البحرية الحربية الروسية في المحيط الهندي، وأجرى البلدان في السابق مناورات عسكرية مشتركة في مناطق بحرية من العالم منها، البحر الأبيض المتوسط، لكن تسيير الدوريات البحرية هو إعلان ميلاد اتفاق عسكري استراتيجي ورد سريع على مخططات الغرب. وتستمر الولايات المتحدة في ضمان تفوق بحري على الصين وعلى روسيا بحاملات الطائرات 11 التي تمتلكها، وعدد من المدمرات ومختلف السفن الحربية، لكن التنسيق الروسي- الصيني في سلاح البحر يكاد يتفوق على التنسيق الغربي.
نعم، يشهد العالم اختراعات جديدة في المجال العسكري، وتتقدم دول وتفرض نفوذها الإقليمي، كما ينتج حاليا عن الصناعة العسكرية الإيرانية والتركية، لكن هناك اختراعات وتحالفات تبصم مستقبل العالم، كما يحدث مع الأحداث المشار إليها، وهي منعطف حقيقي تجبر الطرف القوى الآخر، الغرب على التحرك، فهو أمام روسيا التي أصبحت قلعة بنظامها الدفاعي إس 500، وبدأت اتفاقيات التوازن العسكري تفقد مفهومها أمام تطوير الصين لصواريخ «ما فوق الصوت بكثير» ثم التحالف البحري بين موسكو وبكين.