بعد مرور ستة أشهر على وجوده في البيت الأبيض، بدأ الرئيس الأمريكي جو بايدن يوقع على سياسته الخارجية بشكل جلي، ورغم اختلافه مع سلفه دونالد ترامب، إلا أنه يلتقي معه في نقطة تعتبر ومنذ سنوات، رئيسية في أجندة كل الرؤساء وهي، ضرورة احتواء الصين مستقبلا أكثر بكثير من روسيا. وهذا ما طالب به بايدن خلال زيارته إلى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
وما زالت روسيا هي الدولة التي تواجه الولايات المتحدة في المنتديات الدولية مثل، مجلس الأمن الدولي حول القضايا الدولية وعلى رأسها سوريا. وهي الدولة التي تهدد المصالح الأمريكية في بعض المناطق، بسبب الاتفاقيات العسكرية، كتلك الموقعة مع فنزويلا التي تقع على مشارف الولايات المتحدة، حيث تحولت إلى قاعدة عسكرية غير معلنة ومنها، استقبال الطائرات المقنبلة يوتو 160، وتزويد نظام كاراكاس بأنظمة دفاعية جوية وبحرية متطورة. كما توظف ورقة الطاقة، الغاز، للضغط على أوروبا، ورغم كل هذا، تبقى روسيا «عدوا نسبيا» مقارنة مع الصفة التي تكتسبها الصين مستقبلا.
وترى الولايات المتحدة في الصين التحدي الأمني والسياسي والاقتصادي والعسكري الأكبر، لسببين، الأول هو السرعة الكبيرة التي تسجلها في النمو اقتصاديا وعسكريا، إذ يكفي تفوق الصين على الولايات المتحدة في الجيل الخامس من الإنترنت، وتعمل الآن على الجيل السادس، وهي الدولة التي تبدع في مجال أسلحة المستقبل. وثانيا، الدولة التي تعيد هيكلة التجارة العالمية عبر «طريق الحرير». وانتصر الغرب في مواجهته للاتحاد السوفييتي بسبب احتكاره التجارة العالمية، التي من جهة، تجعل الغرب يسيطر على اقتصاد العالم، ومن جهة أخرى، توفر فائضا ماليا يسمح باستثماره في مختلف المشاريع التي تضمن التفوق. لكن هذه المرة المنافس الشيوعي الصيني مختلف، فهو رغم مركزية الحكم في الحزب الوحيد، يطبق مبادئ الليبرالية الاجتماعية، بشكل تغطي حتى بعض عيوب الليبرالية المطبقة في الغرب، وإذا كان الناس خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، يشترون الأعلام التي فيها المطرقة والمنجل وربما ساعة يدوية تحمل رموزا شيوعية، إلا أن الأمر مع الصين يختلف جذريا، إذ من الصعب أن تجد مواطنا في هذا العالم لا يحمل منتوجا موقعا بـ»صنع في الصين» الهاتف أو الكومبيوتر أو السروال أو القميص أو الساعة اليدوية، ضمن أشياء أخرى. وإذا كان بايدن قد أدلى بتصريحات غير ودية في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتهديد ببعض العقوبات، فالأمر يختلف مع الصين. فقبل وصوله إلى القارة الأوروبية نهاية الأسبوع الماضي لحضور قمة الدول الصناعية السبع في بريطانيا، واجتماعات مع الأوروبيين وقمة الحلف الأطلسي هذا الأسبوع، تسلح مسبقا بقرارات ضد الصين ومنها، مصادقة الكونغرس الأمريكي على ميزانية بقيمة 190 مليار دولار ستكون مخصصة للبحث العلمي والإنتاج في مجال معدات الاتصالات مثل الإنترنت، وهو المجال الذي تبدع فيه الصين. وجاء هذا القانون تحت شعار «مواجهة نفوذ الصين في العالم». وقبل هذا، يضغط على الصين لكي تفتح مختبراتها في ووهان للتأكد من هل أن فيروس كورونا الذي تسبب في الجائحة الحالية تسرب من هذه المختبرات؟
وكان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما هو الذي دشن الاستراتيجية العلنية لمواجهة الصين، عندما قرر التركيز العسكري على المحيط الهادي لمواجهة النفوذ الصيني المتعاظم، وحقق خلفه دونالد ترامب قفزة نوعية، بعدما نقل الصراع إلى العقوبات التجارية والاقتصادية. ويعمل بايدن على تطوير هذه الاستراتيجية من خلال تحقيق هدفين وهما:
في المقام الأول، ترغب الإدارة الجديدة في إعادة بناء الغرب من جديد، عبر تعزيز العلاقات بين المكونين الرئيسيين للغرب، أوروبا والولايات المتحدة، من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري والسياسي، بعد تدهور العلاقات بين الطرفين إبان حقبة ترامب. ويتم تعزيز التعاون الاقتصادي عبر استعادة مشروع التبادل التجاري الحر، التي جمدها ترامب بسبب سياسته الحمائية.
وفي المقام الثاني، العمل على تهميش التيار الأوروبي، الذي يراهن على الصين شريكا اقتصاديا وأمنيا للمستقبل، لاسيما بعدما أبدى عدد من الدول، وعلى رأسها إيطاليا استعدادها للانخراط في مشروع «طريق الحرير».
في المقابل، لا تبقى بكين مكتوفة الأيدي أمام الحرب الباردة الجديدة، التي تتعرض لها. ولا تترك مجالا للصدفة، ففي اليوم نفسه 10 يونيو الجاري، الذي اجتمع فيه قادة السبع لاتخاذ قرارات ومنها ضد الصين، صادقت الأخيرة على وجه السرعة على قانون ينص على معاقبة الدول التي تتبنى عقوبات ضد مواطنين أو شركات وهيئات صينية. وكشفت يوم الاثنين من الأسبوع الجاري أنها تنفق ما يقارب 347 مليار دولار هذه السنة على صناعة الاتصالات المرتبطة بالإنترنت والهاتف والكومبيوتر، لضمان الريادة العالمية، أي ضعف ما أعلنت عنه الولايات المتحدة منذ أيام. وبالموازاة مع اجتماعات الغرب من مجموعة السبع الكبار والحلف الأطلسي، نشرت يوم 11 من الشهر الجاري صور الروبوت «زورونغ» فوق سطح المريخ وهو يحمل العلم الصيني، لتكون الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة التي توقع حضورها في الكوكب الأحمر، وهو توقيع يؤكد رغبتها لريادة العالم. وهذه الصور هي رسالة غير مشفرة إلى الغرب بشأن قوة الصين. وكانت الرسالة الأولى سنة 2019 عندما كانت الدولة الأولى التي تحط مسبارا في الجانب المظلم من القمر.
إنها الحرب الباردة في نسخة جديدة بين الصين والغرب بمفاهيم القرن 21 تطغى عليها التجارة والبحث العلمي بدل الصراع الإيديولوجي، وتشمل مناطق النفوذ في كوكب الأرض وحتى كواكب أخرى مثل المريخ والقمر.