مأساة الاستخبارات العربية: حالة السيسي

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي

قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن الظروف التي رافقت الربيع العربي، ساعدت على قرار إثيوبيا بناء السد، الذي يهدد الأمن القومي الشامل لمصر، متهما الرئيس السابق الذي توفي في السجن محمد مرسي، بالتسبب في هذه الكارثة. لكن السيسي نسي أنه كان مديرا للاستخبارات الحربية، والاستطلاع الموكول لها إفشال مثل هذه المخططات، وتقدير الموقف الاستراتيجي. إنها مأساة الاستخبارات في العالم العربي التي تسعى الى خدمة السلطة والاستبداد، ومصالح دول أخرى وتنسى قضايا الوطن المصيرية حتى تحل الكارثة.
ومن الناحية الجيوسياسية، يعد سد النهضة، الذي ستبدأ إثيوبيا في ملئه بمياه النيل خلال الأيام المقبلة، وبدون اتفاق مع الجانب السوداني والمصري، كارثة حقيقية على الأمن المصري، بسبب تداعياته الخطيرة على اقتصاد البلاد والحكم على عشرات الملايين من المصريين بالمعاناة من الجفاف، وتراجع الزراعة، القطاع الرئيسي في البلاد.
وينسب السيسي في أكثر من مناسبة ما يجري من تدهور إلى رئاسة محمد مرسي عن هذه الكارثة، وهو أمر وارد، بحكم أن كل الحاكمين في مصر يتحملون مسؤولية هذا الملف، مثل الرئاسة والدبلوماسية والاستخبارات، ولاسيما هذه الأخيرة وأساسا عبد الفتاح السيسي وأسلافه على رأس الاستخبارات العسكرية.
إن ملف سد النهضة الإثيوبي هو عنوان يختزل مأساة الأمن القومي في مصر، وباقي الدول العربية. إنه يطرح السؤال العريض: ما هو الأمن القومي في كل بلد؟ وارتباطا بمصر، تشييد إثيوبيا لسد النهضة ليس وليد الربيع العربي، فهو حلم الإثيوبيين منذ منتصف القرن العشرين، حيث كانت أولى الدراسات قد صدرت سنة 1956 وتكفل بها الجانب الأمريكي. حلم تأجل بسبب الحروب، التي مزقت البلاد، وجعلت منها دولة فقيرة، ولكن ها هي تنتفض وتحقق قفزة اقتصادية وسياسية كبرى في القارة السمراء. الدول الواعية هي التي تمتلك رؤية بعيدة المدى، حيث تراكم التجارب والمكتسبات، وتعمل على الملفات التي قد تشكل الخطر، وهذه ميزة الدول الديمقراطية المتحلية بروح المسؤولية العميقة، عكس الدول التي يكون البرنامج الاستراتيجي فيها هو استمرار الحاكم وحاشيته. وعليه، ماذا فعلت الدبلوماسية والاستخبارات المصرية طيلة العقود الماضية، لإفشال قرار إثيوبيا ببناء السد؟ والإفشال هنا لا يعني منعها من بناء السدود، بل الحيلولة دون بنائها سدا كبيرا يمس بأمن مصر، وهو ما يحصل حاليا مع سد النهضة.

لم تعمل الاستخبارات المصرية طيلة العشرين سنة الأخيرة على تهيئة استراتيجية لمواجهة الطموحات الإثيوبية، ولا يتعلق الأمر بعمليات تخريب أو اغتيال، بل باستراتيجية راقية، وهي ربط الاقتصاد الإثيوبي في جزء مهم منه بالمصري، ثم اكتساب ود الطبقة السياسية والرأي العام الإثيوبي تجاه مصر، علاوة على العمل على الدفاع عن دور مصر في هذا الملف، ليس في الدقيقة الأخيرة، بل استحضاره دائما بمناسبة أو بغير مناسبة في المنتديات الدولية. ومن ضمن هؤلاء المسؤولين السيسي نفسه، لتوليه رئاسة الاستخبارات العسكرية، والاستطلاع ما بين 2010 – 2012، التاريخ الحساس في بدء إثيوبيا مشروع السد. وعليه، ما هي المخططات التي وضعها السيسي وقدمها إلى رئاسة حسني مبارك ومحمد مرسي لمواجهة هذا الطارئ الخطير؟ وماذا فعل الآن وهو في الرئاسة؟ لو كان السيسي قد وضع مخططات لكشف عنها وتغنى بها، لكي يبرئ نفسه من هذه الهزيمة التاريخية التي تلحق الآن بمصر كوطن وكأمة عريقة، وتضرب في العمق مقولة «مصر هبة النيل» وتحولها مع الأسف إلى «مصر رهينة سد النهضة»، من دون استبعاد قيام السودان ببناء سد مماثل، حتى يكون لكل دولة سد كبير على النيل.
في الدول الديمقراطية، عندما تقع مثل هذه الأمور يتم استحضار ملفات الاستخبارات والدبلوماسية لتقييم عملها، لكن في الدول الديكتاتورية المستبدة يغيب هذا الإجراء، ونرى في الوقت الراهن، كيف يستدعي الكونغرس الأمريكي مديري الاستخبارات للبحث معهم حول مخططات الصين لإزاحة الولايات المتحدة من زعامة العالم، والإجراءات المتخذة للحيلولة دون وقوع هذا الأمر.
إن الأمر يتعلق بمفهوم الأمن القومي، الدولة ذات المؤسسات لديها رؤية عميقة للأمن القومي، تنطلق من محاربة الفساد في الداخل، وهو خطر يهدد التلاحم الشعبي، ويهدد مستقبل المؤسسات وسيصيب الوطن بالوهن. وعند محاربة العدو الأجنبي، لا يوجد صديق لدى الاستخبارات بل يوجد شريك مؤقت فقط. ونجد في العالم العربي مفهوم الأمن القومي معكوسا، الشعب المطالِب بالحرية والشفافية هو العدو، حيث تتم ملاحقة واتهام كل صحافي وكل ناشط حقوقي، ومنها تهمة التآمر مع الخارج، الجملة المفضلة لدى الأنظمة الاستبدادية، بينما هذه الأنظمة تعامل العدو بطريقة لينة وبنوع من الخنوع، تطبيقا لمقولة «أسد في الداخل وأرنب في الخارج».
لقد صفق الغرب كثيرا للسيسي وأغدق عليه الأوسمة والتصريحات البروتوكولية، لكن هذه التصريحات تعد نفاقا، لم تقف أي دولة غربية مع مصر في مأساة سد النهضة، بل ساعدت إثيوبيا على بنائه وتحصينه عسكريا بمضادات. التصريحات والأوسمة التي تلقاها السيسي لم تنفع مصر ساعة الحقيقية. سمو ورقي ووعي الشعوب والأوطان يتجلى عندما تعي دور الأمن القومي، ولا تتركه في يد أشباه مسؤولين همهم هو ملاحقة الناشطين السياسيين وممارسة التشهير بالناس خدمة للاستبداد والاختلاس، ولأهداف شخصية مقيتة لدى المديرين. عندما ترقى الأوطان إلى جعل أجهزتها منكبة على محاربة الفساد ركيزة من ركائز الأمن القومي، بدل ركيزة من ركائز الاستبداد، وقتها الأوطان تتقدم. ونختتم بهذا السؤال لكل قارئ من العالم العربي: ماذا فعل مديرو مخابرات وطنك ضد الفساد، العدو الرئيسي للشعوب والأمم؟

Sign In

Reset Your Password