الفرنسيون يفتحون النار على فولتير وروبير شومان»، من التعاليق التي تناسب النتائج التي خلفتها الانتخابات الخاصة بالبرلمان الأوروبي في فرنسا، بعدما تقدم حزب «التجمع الوطني» اليميني القومي المتطرف بزعامة ماري لوبين. وهذا التقدم السياسي للتطرف، في البلد المنادي بالوحدة الأوروبية، هو نتاج عمل سياسي ميداني وفكري لسنوات طويلة وليس عن طريق الصدفة.
وعادة، لا تكتسب الانتخابات الخاصة بالبرلمان الأوروبي أهمية كبرى، بحكم الفوز المستمر بين اليمين المحافظ واليسار المعتدل، المتمثل في الأحزاب الاشتراكية، لكن خلال العقد الأخير بدأت هذه الانتخابات تحظى باهتمام كبير للغاية، نظرا لتحولها الى منبر للأحزاب القومية المتطرفة، التي تنادي بنهاية الاتحاد الأوروبي، والعودة الى الدولة القطرية أو الدولة الوطنية القومية بهويتها. وتعتبر الانتخابات التي جرت الأحد الماضي منعطفا حقيقيا بسبب تقدم التجمع الوطني، واحتلاله المركز الأول متقدما على «الجمهورية إلى الأمام» حزب الرئيس الحاكم إمانويل ماكرون، إذ تعتبر الانتخابات البرلمانية التمرين للانتقال نحو اكتساح البرلمان الوطني، كما وقع مع اليمين القومي المتطرف في إيطاليا بزعامة ماتيو سالفيني، الرجل القوي في حكومة روما.
وحقق اليمين القومي المتطرف تقدما كبيرا في فرنسا، ثم في إيطاليا وكذلك في هنغاريا، وتفاوتت نتائجه في باقي الدول، ورغم احتلاله مركزا غير متقدم في إسبانيا مثلا، فهو يصل لأول مرة الى البرلمان الأوروبي بمجموعة من النواب التي تتجاوز الخمسة. وتبقى نتيجة فرنسا منعطفا حقيقيا وبمثابة زلزال داخلي ودولي لأسباب متعددة. وتعتبر هذه الانتخابات نهاية المشهد السياسي الكلاسيكي، الذي سيطر لسنوات طويلة على السلطة، أي التناوب بين اليمين المحافظ وحزب اليسار المعتدل. فقد حصل الحزبان على 13% فقط، بينما حصل اليمين القومي المتطرف على 23% لوحده، بل حركة كانت هامشية دائما وهي، حركة أو حزب الخضر حصل على قرابة 13%. لقد انتهت الحركة السياسية التي أعطت رؤساء مثل جاك شيراك وفرانسوا ميتران. وهذه النتيجة هي بمثابة إعداد لوصول اليمين القومي المتطرف إلى الحكم في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وتحمل الانتخابات انعكاسات على مجموع أوروبا، إذ تعتبر فرنسا الدولة المحرك السياسي للوحدة الأوروبية، بينما ألمانيا هي المحرك الاقتصادي، وإذا كان اليمين مع رؤساء مثل جيسكار ديستان وشيراك وساركوزي، أو اليسار مع رؤساء مثل ميتران وفرانسوا أولاند من رواد الوحدة الأوروبية، من خلال مشاريع رائدة، فالحزب الذي سيمثل فرنسا كقوة أولى وهي التجمع الوطني الذي كان يحمل اسم «الجبهة الوطنية» غير اسمه، ولكنه لم يغير من برنامجه المعادي للوحدة الأوروبية. ويراهن الحزب على عودة الدولة الوطنية والتخلي عن الكثير من الصلاحيات التي جرى تفويتها الى المؤسسات الأوروبية، ومنها المفوضية الأوروبية. والتشكيك في أوروبا عبر تقدم الأحزاب القومية المتطرفة، يتزامن مع إعادة تشكيل خريطة العالم، من خلال عودة روسيا وبدء بروز ثنائية الصراع بين الصين والولايات المتحدة، ومن عناوينه النزاع التجاري. وترغب أوروبا في تعزيز صفوفها، بما في ذلك الرهان على صناعة عسكرية موحدة وجيش موحد والرقي باقتصادها حتى لا تغيب عن ساحة اللاعبين الكبار في العالم، لكن هذه الأحلام بدأت تتلاشى في ظل تقدم الفكر السياسي المعادي للوحدة الأوروبية. وتقف ثلاثة أسباب وراء تقدم هذا الفكر العنصري القومي الشوفيني وهي:
في المقام الأول، فقدان الطبقة الكلاسيكية الكثير من مصداقيتها، بسبب ملفات الفساد وعدم تجديد نمط التسيير، إذ لا يستوعب كيف سمح اليمين المحافظ لسياسي من نوعية نيكولا ساركوزي المتهم في ملفات عديدة من الفساد، فرنسيا ودوليا مثل التمويل المالي من طرف الرئيس الليبي المغتال معمر القذافي، الترشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة.
في المقام الثاني، تفويت الدول للكثير من الصلاحيات للمؤسسات الأوروبية، ومنها المفوضية الأوروبية، من دون أن تكون الأخيرة في مستوى الاستجابة لمطالب المواطنين في مختلف المجالات، إذ احتفظت بصلاحيات على حساب الدولة الوطنية، ولكن من دون استغلالها لصالح المواطنين بسبب البيروقراطية القاتلة في مراكز القرار الأوروبي.
ويتجلى السبب الثالث في ازدهار الإنتاجات الفكرية المتطرفة بشكل لافت خلال العقد الأخير، وهو ما يؤكد ميل شريحة من الفرنسيين الى اعتناق مثل هذه الأفكار. ومن أبرز هؤلاء الكتاب والمفكرين آلان فينكلكروت وإريك زمور ولوك فيري وميشيل هولبيك، الذين يدافعون عن أطروحات متطرفة وشوفينية، يتصدرون المبيعات في الكتب السياسية والروائية وفي وسائل الإعلام. ومن ضمن الأمثلة، رواية «الخضوع» لميشيل هولبيك الذي يتحدث عن انهيار فرنسا منذ سنة 2002 إلى مستوى سقوط الرئاسة في يد مسلم نهاية العقد الحالي، وحققت الرواية مبيعات قياسية. في الوقت ذاته، كتاب «انتحار فرنسا» لإريك زمور الذي يعد بمثابة بيان سياسي يدافع عن مفاهيم وطروحات التجمع الوطني. وتطالب ماري لوبين من أعضاء حزبها والمتعاطفين معه، ضرورة قراءة واستيعاب أفكار هذه الفئة من المفكرين، لأنهم خير من يمثل إنقاذ فرنسا من «الانهيار». وانضاف الى هذه المجموعة الأمريكي ستيف بانون، الأب الروحي للرئيس ترامب قبل الانفصال عنه، الذي ساهم في تأطير حزب ماري لوبين خلال السنتين الأخيرتين.
تعد فرنسا منارة فكرية وسياسية وسط الاتحاد الأوروبي بمفكرين وسياسيين كبار دافعوا عن قيم إنسانية وعن الوحدة الأوروبية، لكنه في هذه الانتخابات فتح الناخب الفرنسي النار على «فولتير وروبير شومان»، الأول من مؤسسي الفكر الإنساني الأوروبي والثاني أهم مشيد للوحدة الأوروبية التي أصبحت الآن الاتحاد الأوروبي.