كانت تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون حول إرسال حاملات طائرات «أبراهام لكنولن» إلى الخليج العربي للرد على تهديدات إيران، كافية لكي تندلع موجة من هستيريا المقالات وفي كبريات الصحف وقنوات التلفزيون المعروفة للحديث عن حرب أمريكية ضد طهران وشيكة. بينما الواقع الجيوسياسي يشير إلى استحالة وقوع الحرب في الوقت الراهن وربما إلى الأبد باستثناء وقوع معجزة ما.
ولم يصدر أي بيان رسمي عن واشنطن يؤكد حتمية الحرب بل يتحدث عن الرد في حالة تعرض المصالح الأمريكية لاعتداء ما. وموجة المقالات التي تتحدث عن الحرب شبيهة بتلك التي سادت خلال شباط/فبراير 2017 عندما أجرت طهران تجربة صاروخ باليستي وهددت واشنطن وقتها بالحرب، واعتقد الجميع في وقوع الحرب عمليا. صاحب هذا المقال نشر في جريدة «القدس العربي» يوم 27 شباط/فبراير 2017 مقالا بعنوان «واشنطن لن تشن حربا ضد إيران الآن ولا مستقبلا». وكان تعيين الرئيس دونالد ترامب لجون بولتون مستشارا للأمن القومي خلال اذار/مارس 2018 مناسبة للحديث عن الحرب ضد إيران، وأصبحت الحرب في أجندة معظم وسائل الإعلام رغم وجود معطيات سياسية وفكرية وعسكرية تخضع للمنطق الجيوسياسي تمنع وقوع هذه الحرب.
الجانب الفكري
الحرب التي شنتها الولايات المتحدة ضد العراق سنة 2003 جاءت بسبب هيمنة المحافظين الجدد على الإدارة الأمريكية فكرا وتطبيقا، حيث كانوا يعملون منذ سنوات للوصول إلى البيت الأبيض وتطبيق رؤيتهم للعلاقات الدولية وجزء هام منها يقوم على تغيير الأوضاع في الشرق الأوسط. وكان لهم امتداد في عالم الأعمال والإعلام وأساسا المؤسسة العسكرية، وكانت نسبة من المسؤولين تؤمن بنظرياتهم. أما في الوقت الراهن، فلا يمتلك دونالد ترامب رؤية فكرية وسياسية لتغيير الشرق الأوسط أو العالم بل يدعو إلى مواجهة العولمة الاقتصادية والعسكرية وتخلي واشنطن عن لعب دور دركي العالم.
الجانب السياسي
شكل المحافظون الجدد تيارا قويا ومهيمنا وسط الحزب الجمهوري بل هناك من الحزب الديمقراطي من دافع عن بعض أطروحات المحافظين ومنها الحرب ضد العراق، وكانت آليات التنظيم السياسي أداة لخدمة أهدافهم. كما تمتع المحافظون الجدد بدعم من طرف هيئات سياسية ودول أوروبية انخرطت في مشاريعهم مثل حالة بريطانيا مع توني بلير واسبانيا مع خوسي ماريا أثنار والبرتغال مع باروسو علاوة على دول شرق أوروبا. ولا يتمتع ترامب بأي دعم من هذا النوع، يواجه معارضة شديدة من طرف الكونغرس الأمريكي الذي يرفض رؤيته للعلاقات الدولية ومنها ما ينهجه حاليا مع إيران. ويوجد شرخ كبير بين واشنطن وأوروبا حول ملفات عديدة ومنها الملف الإيراني، إذ يرفض الأوروبيون كل حل عسكري للملف النووي الإيراني ويطالبون بتغليب الدبلوماسية، وانتقدوا بشدة انسحاب ترامب من الاتفاق المتعدد الأطراف حول الملف النووي. ولا يمكن للولايات المتحدة خوض حرب كبيرة بدون سند من حليفتها الرئيسية وهي بريطانيا ثم شركائها في أوروبا، فقد اعتمدت عليهم في كل الحروب مثل العراق أفغانستان.
الجانب القانوني
لا يمتلك الرئيس الأمريكي صلاحية إعلان الحرب بل تعود الصلاحية إلى الكونغرس لأنه لا يتحكم في كل قوات الجيش رغم أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، فقط يمتلك صلاحية إرسال قوات المارينز (ليست هي البحرية الكلاسيكية) لشن الحروب، وهي القوات التي تؤتمر بأوامر.
وتاريخيا، صادق الكونغرس الأمريكي على ست حروب وهي ضد بريطانيا (1812) وضد المكسيك (1842) وضد اسبانيا (1898) وألمانيا (1917) وضد المانيا واليابان وإيطاليا سنة 1941 في إطار الحرب العالمية الثانية، ثم ضد هنغاريا ورومانيا وبلغاريا سنة 1942 في إطار الحرب العالمية الثانية، بينما الباقي لم يصادق عليها الكونغرس بل تعتبر قرارا رئاسيا وأحيانا كان الكونغرس يرسل جنودا ولكن بدون إعلان حرب.
إذن كيف يعلن الرئيس الحرب؟ الرئيس له الصلاحية الدستورية للتحكم في قوات المارينز وإرسالها إلى أي بؤرة في العالم، ويأمرها بتنفيذ عمليات عسكرية من غير العودة إلى الكونغرس. وبما أن المارينز يجب أن يصل إلى منطقة التدخل، تضطر البحرية الحربية إلى حمله. ومن حق المارينز طلب مساعدة القوات الخاصة للجيش مثل فرق رينجر وفرق المظلات 82 والقبعات الخضر وكذلك بعض الفرق الجوية مثل 160 لتأمين اللوجستيك والتفوق العسكري. هنا يكون الرئيس قد ورّط جزءا هاما من الجيش في العملية العسكرية، وهذا ما وقع في التدخل العسكري ضد العراق سنة 2003 عندما أرسل جورج بوش عشرات الآلاف من المارينز وحصلوا لاحقا على الدعم من الجيش الكلاسيكي. وهذا صعب في حالة إيران في الوقت الراهن بسبب عدم رغبة الجيش خوض أي حرب.
العامل العسكري
الغطاء الفكري والتحالفات السياسية الدولية ما هي سوى أدوات لتبرير خوض الحروب، لكن الفكر لا يحسم الحروب وتبقى الكلمة الأخيرة لنوعية السلاح وجاهزية الجيوش. في هذا الصدد، وصول حاملة الطائرات «إبراهام لنكولن» إلى الخليج العربي هو أمر عادي للغاية، إذ يعتمد البنتاغون الوحدات القتالية البحرية المتنقلة وهي ما بين ست وثماني حاملات الطائرات تجوب مياه عالم بشكل دوري لضمان حرية الملاحة والتدخل في الأزمات المفاجئة. وكلما غادرت حاملة طائرة منطقة الخليج العربي أو المحيط الهندي تكون أخرى في الطريق لتعويضها بينما تقوم المغادرة بتعويض أخرى في منطقة استراتيجية أخرى وغالبا ما تتوجه إلى مياه شرق آسيا. وبالتالي، وصول «إبراهام لنكولن» ليس بالجديد أو المفاجئ بل بالعمل الروتيني لعمل حاملات الطائرات. فقد برمج البنتاغون خلال آب/اغسطس الماضي بدء أبراهام لنكولن دورة حول العالم يوم فاتح نيسان/أبريل الماضي. وعليه، غادرت قاعدة نورفولك في فرجينيا، ورست في مايوركا الإسبانية يوم 15 نيسان/أبريل وتواجدت لاحقا رفقة حاملة طائرات أخرى وهي جون ستنيس حيث أجريتا مناورات مشتركة للتنسيق كرد على التواجد الروسي-الصيني العسكري في غرب البحر الأبيض المتوسط. ووصلت حاملة الطائرات «أبراهام لنكولن» إلى البحر الأحمر يوم 9 أيار/مايو الجاري وإلى منطقة الخليج في اليوم الموالي، وسترسو هناك لبضعة أسابيع قبل إتمام رحلتها نحو شرق آسيا، ومقرر لها الرسو في سان دييغو خلال تشرين الأول/أكتوبر المقبل وقد تتأخر لشهر أو شهرين. بينما رست جون ستنيس نهاية الشهر الماضي في مرسيليا جنوب فرنسا، وكانت بداية نيسان/أبريل في الشرق الأوسط، حيث أجرت تدريبات ومناورات مع حاملات الطائرات شارل ديغول في البحر الأحمر.
في نقطة أخرى، حاملة الطائرات هي القطعة الرئيسية في وحدة القتال البحري، وترافقها كاسحة للألغام وغواصة أو غواصتين وبارجة وفرقاطتان، ولا يمكن لوحدة القتال هذه حسم أي مواجهة حربية مع دولة ذات قدرات عسكرية مثل إيران. وعودة إلى الماضي، في حالة الحرب ضد العراق، لجأ البنتاغون إلى ثلاث حاملات طائرات للرفع من كثافة القصف الجوي ثم الإنزال والغزو البري علاوة على العمل المسبق للفرق الخاصة مثل نايفي سيل أو ديلتا أو مجموعات الاستطلاع التابعة للمارينز وتطلب هذا أكثر من سنة من الاعداد. وكان العراق منهكا عسكريا ولا يتوفر على أسلحة قادرة على المواجهة، بينما إيران هي قوة عسكرية حقيقية مستعدة لكل الاحتمالات، والانتصار عليها يحتاج إلى حشد عسكري هائل.
في الوقت ذاته، هناك عقيدة ترسخت لدى المؤسسة العسكرية الأمريكية منذ حرب الفيتنام وهي عدم خوض أي حرب قد تلحق أضرارا بقرابة 2 في المئة من القوة العسكرية الأمريكية. وطيلة الحروب التي خاضتها واشنطن لم تتعرض لخسائر مؤثرة في قدرتها العسكرية باستثناء في الحرب ضد صربيا عندما جرى يوم 27 اذار/مارس 1999 إسقاط طائرة الشبح ف 117، واضطر البنتاغون إلى سحبها من الخدمة بعدما اطلع الروس على تقنياتها. هذا الهاجس هو الذي جعل الهيئات الاستخباراتية الأمريكية تسلم تقارير مشابهة إلى الرئيس جورج بوش الابن سنة 2006 يؤكد صعوبة صنع طهران القنبلة النووية وقتها، وبالتالي ألزموه بعدم التفكير في الحرب. وكانت أول مرة في التاريخ الاستخباراتي يجري تقديم تقارير مشابهة من طرف 13 هيئة استخباراتية، مما دفع بجون بولتون الذي كان وقتها سفيرا لدى الأمم المتحدة إلى اتهام الهيئات الاستخباراتية والعسكرية بتنفيذ انقلاب صامت ضد جورج بوش. المؤسسة العسكرية لا ترغب في التعرض لمفاجآت في الحرب ضد إيران، إذ يقدر الخبراء بأن كل مواجهة مع إيران ستنتصر واشنطن ولكن ستفقد ما بين 15 حتى 20 في المئة من قوتها العسكرية. ولن يغامر البنتاغون نهائيا في هذه الحالة لاسيما وأنه لا يعرف كل أنواع أسلحة إيران ولا تلك المتقدمة التي قد تكون الصين وروسيا زودتها بها. يدرك البنتاغون قدرة إيران على ضرب حاملات الطائرات وإخراجها من الخدمة العسكرية وجعل مهام سلاح الجو صعبا للغاية، وكل سيناريو مثل هذا سيكون كارثيا على سمعة الجيش الأمريكي. فقد طورت إيران صواريخ خاصة بالسفن الحربية العسكرية العملاقة ولم تقم فقط بتطوير الصواريخ الباليستية.
لقد انتقلت لهجة واشنطن من التهديد لضرب إيران إلى التعهد بالرد على أي اعتداء تعرضت له مصالح الولايات المتحدة، لينتهي المطاف بالرئيس دونالد ترامب بطلب لقاء القيادة الإيرانية بل وليخبر الإيرانيين أن هاتفه يوجد لدى سويسرا في حالة ما إذا أرادوا الحوار. يحدث هذا، بينما تبقى الحرب تجري فقط في مقالات بعض المحللين ووسائل الإعلام.