ترامب يجعل صورة الولايات المتحدة في الحضيض أمام الرأي العام العالمي / د. حسين مجدوبي

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

تحرص الدول على بناء صورة إيجابية عنها أمام الرأي العام العالمي لتكون مثالا في مختلف القطاعات الحقوقية والسياسية والاقتصادية والعلمية. وتعتبر الولايات المتحدة من الدول التي تنفق الكثير على صورتها في الخارج، لكن وصول دونالد ترامب إلى رئاسة البيت الأبيض جعل صورة الولايات المتحدة تصل إلى الحضيض بشكل لم تشهده منذ تأسيسها كدولة في القرن الثامن عشر.
ومن الأدوات التي توظفها الدول، خاصة الكبرى أو الصاعدة التي لديها طموح للمشاركة في صنع القرار الدولي، هناك الثقافة والإعلام. وعلاقة بالثقافة، تحرص هذه الدول على إنشاء سلسلة من المراكز الثقافية والمدارس التابعة لها، ثم تعمل على إنشاء وسائل إعلام من صحافة مكتوبة ومرئية ومسموعة ومؤخرا الرقمي لخدمة صورتها. ولا يمكن فصل وسائل الإعلام الوطنية بلغات أجنبية عن هذا المسار، الذي يمتزج بين الترويج عن الصورة ومواجهة نفوذ الآخر، ويتراوح بين خطاب إعلام ذكي وخطاب البروباغندا الرخيصة. وكانت نقطة الانطلاقة قبل الحرب العالمية الثانية، في المواجهة الشهيرة بين راديو روما وبرلين ثم «بي بي سي» باللغة العربية. وتعتبر الساحة الآن مسرحا لمواجهات بين وسائل إعلام منها قنوات تلفزيونية، تركز على مناطق في العالم، ومنها العالم العربي، ولهذا تشتد المنافسة بين «فرانس 24» و»بي بي سي» باللغة العربية وقناة «دوتشه فيله» بالألمانية و»الحرة» الأمريكية علاوة على «روسيا اليوم».

وتتصدر الولايات المتحدة لائحة الدول الأكثر استثمارا وإنفاقا على صورتها في الخارج عبر وسائل إعلام متعددة من صوت أمريكا الى راديو سوا، وأبدعت في هذا المجال كثيرا، بحكم ريادة الباحثين الأمريكيين في الإعلام طيلة القرن العشرين والعقدين الحاليين من القرن 21. لكن تبقى المفارقة الصارخة هو فشل واشنطن في تحسين صورتها في العالم، ومنها في العالم العربي، كما فشلت في أمريكا اللاتينية بل حتى في الكثير من الدول الأوروبية.
وعلاقة بالمنطقة الأخيرة، لا تعتبر الولايات المتحدة قوة استعمارية تاريخيا في العالم العربي والاسلامي مثل حالتي فرنسا وبريطانيا، لكن صورة باريس ولندن أحسن نسبيا من واشنطن لدى العرب والمسلمين قاطبة، رغم ماضيهما الاستعماري الإجرامي، وفق استطلاعات الرأي التي تنجزها مراكز ومنها مركز الأبحاث الأمريكي الشهير Pew Research Center بشكل دوري.
ومن العوامل التي جعلت صورة الولايات المتحدة تنهار في العالم العربي، هو موقفها المنحاز الى إسرائيل، في قضية تعتبر محورية في السياسة والوجدان العربي، هي القضية الفلسطينية. كما تتفاقم سلبا في بعض المحطات التاريخية مثل حرب العراق الثانية سنة 2003، التي جرت تحت ذريعة امتلاك العراق للسلاح النووي والبيولوجي ليتبين زيف الادعاءات. وإذا كانت صورة الولايات المتحدة قد تحسنت نسبيا مع وصول باراك أوباما إلى رئاسة البيت الأبيض، وقيامه بمبادرات منها خطابه في الأزهر، وتعهده بإغلاق سجن غوانتانامو، والتخلي عن فكر الـ»كاوبوي» في العلاقات الدولية، فقد وقع منعطف مع فوز دونالد ترامب بالرئاسة، إذ تراجعت صورة الولايات المتحدة عالميا خلال سنة واحدة بشكل رهيب، ولم يعد الأمر يقتصر على منطقة جغرافية وثقافية دون الأخرى (ربما باستثناء إسرائيل بسبب ملف القدس). ومن خلال جرد تاريخ الصحافة العالمية سنة 2017، بعد وصول ترامب إلى الرئاسة، سواء العناوين الكبرى أو الافتتاحيات أو رسوم بعض المجلات العريقة مثل «دي شبيغل» و»ذي إيكونوميست» و»تايم»، يتضح جليا التراجع الرهيب لصورة البلد. وهذه الصحف تبرز كيف يوجه ترامب، من خلال تصريحاته، رصاصه الى القيم الأمريكية، وكان غلاف «دي شبيغل» الذي يبرز ترامب وقد ذبح تمثال الحرية، معبرا للغاية في هذا الشأن.
ومن أهم العوامل التي ساهمت في تراجع صورة ترامب تصريحاته المثيرة للجدل أكثر من قراراته السياسية. وعلى شاكلة بعض الرؤساء الشعبويين، نقل ترامب «الفرجة الرخيصة» للسياسة من خلال تغريداته أو تصريحاته الحادة في مجالات حساسة تشغل بال الرأي العام العالمي ومنها:
ـ أولا: الهجرة، فقد جعل من هذا الملف ركيزة رئيسية في سياسته وتصريحاته ولاسيما بالتركيز على هجرة المسلمين وأمريكا اللاتينية وإفريقيا إلى مستوى وصف دول معينة بالقذارة.
ـ الإسلام: يعتبر الرئيس الأمريكي منذ تأسيس الولايات المتحدة، خاصة خلال الخمسين سنة الأخيرة ـ محدود الثقافة بالعالم الإسلامي، ولهذا لا يفرق بين ممارسات وتأويلات لجماعات إسلامية متطرفة، بل إرهابية وروح الدين الإسلامي. ولا يمكن فهم طريقة تفكير رئيس قام بإعادة نشر تغريدة عنصرية ضد الإسلام لمنظمة «بريطانيا أولا».
ـ المناخ: تحولت البيئة إلى نقطة رئيسية في انشغالات الرأي العام العالمي لاسيما بعد ظاهرة الحرارة الشديدة أو البرودة القاسية التي يتعرض لها العالم. وإذا كان المنتظم الدولي يحاول ومنذ عقدين التوصل إلى اتفاق بيئي، يعتبر قرار ترامب بالخروج من اتفاقية باريس للمناخ، ثم تصريحاته ضد البيئيين والعلماء، من العوامل التي تقوم بتبخيس صورة الولايات المتحدة في العالم، خاصة لدى الطبقة المثقفة.

ـ قرار القدس: ترتب عن قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس موجة من الاستنكار العالمي، وأصبحت صورة الولايات المتحدة بمثابة صورة البلد الذي يهدد السلم العالمي.
ـ غياب احترام الآخر: لم يسبق لرئيس أمريكي أن دخل في مواجهات كلامية مع صحافيين وناشطين وسياسيين، بمن فيهم أولئك الذين لهم تاريخ محترم، مثل الجمهوري ماكين أو السيناتورة الديمقراطية إليزابيث وارن، ومع قادة أجانب مثلما فعل ترامب في ظرف سنة واحدة.
يجسد الرأي العام العالمي صورة أي بلد في رئيسه أو ملكه، وفي حالات الولايات المتحدة، يربط هذه الصورة بترامب. وبهذا تحولت صورة الولايات المتحدة الى رهينة وسجينة لمزاج الرئيس الجديد، ويزداد الوضع سوءا في غياب قادة أمريكيين آخرين، يستطيعون تعديل الكفة ولو نسبيا بتقديم صورة مختلفة. لقد وصلت صورة الولايات المتحدة الى الحضيض التاريخي بشكل لم تشهده منذ تأسيسها سنة 1776، ويكفي تردد دول في استقبال ترامب بما فيها الغربية، وعلى رأسها الحليف الأول الذي هو بريطانيا. وتحول الدبلوماسيون الأمريكيون الى رجال إطفاء في العالم في حالة استنفار مستمرة، لإطفاء نيران الجدل التي تسببها تصريحاته. في غضون ذلك، يبدو أن ترامب بدأ يتعلم الدرس، ولهذا قام خلال قمة دافوس الأسبوع الماضي بالاعتذار للقادة الأفارقة عن مصطلح «القذارة» وتراجع عن التغريدة المسيئة للإسلام، فهل نحن أمام اكتساب ترامب رشدا سياسيا براغماتيا؟

 

Sign In

Reset Your Password